المنشور

دروس أسطول الحرية (1-2)

لربما لم تتوافر في تاريخ الصراع العربي ــ الإسرائيلي منذ إنشاء الكيان الصهيوني على أرض فلسطين العربية عام 1948 جملة من الدروس والعبر للعرب كالتي توافرت في أحداث وتداعيات العدوان البربري الإجرامي الذي أقدمت عليه بلطجية الدولة العبرية على أسطول قافلة الحرية وعلى الأخص السفينة التركية “مرمرة”.لقد خلفت أحداث هذه السفينة جملة من الدروس والعبر الثرية المفيدة للفلسطينيين والعرب عامة أنظمة وأحزابا وحركات.. وما لم يتمعنوا جيدا في هذه الدروس والعبر ليتعظوا منها في صراعهم مع إسرائيل من خلال مراجعة سياساتهم الراهنة تجاهها وتطويرها ومن أجل إعادة بناء علاقاتهم تجاه بعضهم بعضا فلن يتعظوا منها أبدا.وقبل أن نتناول الدروس والدلالات التي خلفتها العملية العدوانية على أسطول الحرية لعل من المفيد بادئ ذي بدء أن نقوم بتحليل أبعاد ودلالات الموقف التركي ونخصص حلقة الغد للدروس والأبعاد العامة للحدث.إن الزلزال الأكبر في تداعيات جريمة الاعتداء على سفينة “مرمرة” يتمثل في انفجار الغضب التركي رسميا وشعبيا بكل قوة، حيث إن جنسية السفينة تركية وشهداء الاعتداء البربري الإسرائيلي كلهم من الأتراك. وفي هذا الغضب التركي وما تمخض عنه رسميا من وعيد وتهديدات ضد إسرائيل ثمة تحول يقترب من زاوية 180 درجة لواحدة من أقوى وأهم حلفاء إسرائيل في المنطقة منذ إنشاء الدولة العبرية تقريبا قبل أكثر من 60 عاما. فتركيا ليست فقط عضوا في حلف الأطلسي المؤيد بقوة لإسرائيل، بل على أراضيها قواعد عسكرية أمريكية لطالما استفادت منها الولايات المتحدة وإسرائيل في كل حروب هذه الأخيرة على الدول العربية منذ خمسينيات القرن الماضي.. وتركيا أيضا تربطها بإسرائيل حزمة متعددة من العلاقات والاتفاقيات في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية حتى الثقافية، وهي بالتالي تمثل أكبر دولة إسلامية في العالم الإسلامي تستفيد إسرائيل منها في علاقاتها معها أيما استفادة.لكن تركيا ورغم كل ما يربطها من علاقات تاريخية عريقة ووثيقة مع إسرائيل أعطت درسا فذا مهما ملهما للعرب وعلى الأخص الدول المطبعة معها بأنه يمكن أن تحافظ أي دولة حتى لو كانت لها علاقات مع إسرائيل على عزتها وكرامتها وكبريائها القومية في مواجهة سياسة تغطرس الدولة الصهيونية التي تعتبر نفسها أنها الدولة الوحيدة في العالم التي فوق القانون الدولي والشرعية الدولية ومن ثم إطلاق لنفسها حق أن تستبيح كل أراضي وبحار العالم لحفظ “أمنها” المزعوم الذي بات اسطوانة مشروخة تبعث على التقزز والغثيان من قبل شرفاء العالم أجمعين لا العرب وحدهم.وقد جاء خطاب رئيس الحكومة التركية رجب أردوجان الناري الغاضب أمام برلمان بلاده صفعة ليس في وجه إسرائيل فحسب بل للأسف في وجه الدول المطبعة، ولكن لا أحد من المعلقين والساسة العرب قد توقف طويلا أمام فقرة من الخطاب حينما غمز بشكل واضح لمواقف هذه الدول العربية التطبيعية المخزية قائلا: “لن تعود الأمور إلى سابق عهدها أبدا.. وليس لأحد أن يحاول اختبار صبر تركيا.. فنحن لسنا كدول أخرى في المنطقة، كما لسنا دولة قبلية وعداوتنا لها ثمن”. لقد حرص أردوجان في مخاطبته للأتراك على النبرة القومية ليستثير مشاعرهم للتعاطف معه في موقفه على اختلاف اتجاهاتهم وانتماءاتهم السياسية والفكرية ومن ثم لم يستخدم مفردات الخطاب الإسلامي إلا في أضيق الحدود، وهذا ما دفع الغالبية العظمى من النواب إلى أن يصفقوا له بحرارة تكرارا على اختلاف انتماءاتهم داخل البرلمان.أراد أردوجان باختصار شديد أن يقول للعالم، وعلى الأخص الدول الغربية الكبرى، إن الدم التركي المسفوح فوق ظهر إحدى سفن “اسطول الحرية” ليس أرخص من الدم الإسرائيلي ولا أرخص من دماء أبناء الدول الغربية الكبرى المنافقة المتحالفة مع إسرائيل التي تزلزل الأرض زلزالها ليس عندما يمس أي مواطن من مواطنيها بسوء في العالم فقط، بل حيثما يراق دم أي “مواطن” إسرائيلي جراء أي عملية ضد هدف إسرائيلي، حيث توصم هذه العملية بأبشع مفردات “الإرهاب” في حين سكت العالم الغربي الرسمي عن دماء المدنيين الأتراك المسالمين المتضامنين مع الشعب الفلسطيني المحاصر في غزة ولم ير فيها أي شكل من أشكال “الإرهاب” اللهم إبداء “الأسف” في أحسن الأحوال.لكن ماذا جرى لتركيا إزاء كل هذه المواقف النارية الغاضبة ضد إسرائيل؟ هل هددها الغرب بقطع علاقاته التجارية والاقتصادية ومساعداته المالية؟ هل زحفت أساطيل حلف الأطلسي لمحاصرتها؟ لا شك أن شيئا من هذا القبيل لم يحدث البتة وما ذلك إلا لأنها احترمت نفسها وشعبها وعزتها القومية وفقا لمنطق قوانين الشرعية الدولية وحقوق الإنسان التي يتشدق بها الغرب المنافق.والسؤال هنا: لماذا تعجز الدول العربية ولاسيما المطبعة مع العدو الصهيوني حتى عن تبني ولو المواقف “الكلامية” التي تحفظ شيئا من كرامتها وكرامة شعوبها بدلا من لغة الاستخذاء الملطفة في ردود أفعالها اتقاء من الغضب الأمريكي؟ ألم نقل ذات يوم إن حتى لغة الكرامة في ردود فعل الدول العربية وعلى الأخص المطبعة باتت جزءا من الماضي؟

 
صحيفة اخبار الخليج
7 يونيو 2010