المنشور

هاشمي رفسنجاني (3-3)

أعطى الجمهورُ الإيراني خلال الثورة الجماعات السياسيةَ الدينية التي تنامتْ خلال العقد السابق السلطةَ، وفي البدءِ تداخلتْ هذه الجماعاتُ مع الليبراليين ذوي الخلفية الدينية، وجرتْ محاولةٌ لعقدِ تعاونٍ بين الدينيين والليبراليين من دون نجاح. ويعبرُ ذلك عن التناقضِ العميقِ بين رؤيةِ الإقطاعِ الديني ورؤيةِ الليبرالية، أي بين رؤيةِ شرائح ريفيةٍ مهيمنة على العامة وترفضُ نمو حرياتِها وإستقلالِها الطبقي، وبين شرائح برجوازيةٍ تؤكدُ بعض هذه الحرياتِ من دون أن تعي بعمقٍ الإسلامَ والليبرالية.ومع تصاعدِ شرائح الدينيين المختلفةِ تمتْ إزاحة الليبراليين القوميين الدينيين، الذين لم يستطيعوا تشكيلَ رؤيةٍ برجوازية ديمقراطية مستقلة على طولِ التاريخ الإيراني السابق.وكان صعودُ ونزولُ هاشمي رفسنجاني يجري داخلَ هذا التناقض نفسه، فهو شكلٌ بشري سياسي لهذا التناقض، فهو ذو رؤى دينيةٍ إقطاعيةٍ محافظة وهو رأسمالي يتوجهُ للرأسمالية. فقامَ بتجسيدِ هذا التناقض على مستوى الدولة، فعملَ لتوسيع الصناعات عبر إيجاد صناعات ثقيلة وخفيفة، وحماية القوى الاجتماعية الفقيرة بشكل أبوي عبر مؤسسات رعاية الشهداء وغيرها، كما قامَ في ذاتِ الوقت بخصخصةِ الاقتصاد وبفتحِ إيران للاستثماراتِ الأجنبية، مثلما يقولُ غلام حسين كرباتشي، مدير تحرير جريدة كوادر البناء التابعة لهاشمي، في جريدة الشرق الأوسط في حديثه:(صانع الملوك).تمت توسعة الدور الأبوي للدولة عبرَ تنامي الرأسمالية الحكومية الموروثة من عهد الشاه باتجاهِ التنمية الوطنية العريضة، التي يقفُ على رأسِها رفسنجاني، لكن مع غيابِ الصحافة الحرة والبرلمان الديمقراطي الحر بحيث وقعت الملكية العامة في قبضة هذه الطبقة. ولهذا فإن النمو الاقتصادي المفيدَ تشوه من خلالِ هذه الشمولية، والنتائجُ كانت وخيمةً في جوانب عدة كما يدل عليها بعضُ حسابِ السنين التالية:(يحتاج الاقتصاد الإيراني إلى قدرٍ كبيرٍ من الإصلاح، فهو اقتصادٌ مقيدٌ بسببِ تفشي ظاهرة الفساد، وهي الظاهرة التي أفرزتْ آثاراً سلبيةً عديدةً في الاقتصاد الإيراني لعل من أهمها انخفاض معدل السيولة، وهروب الاستثمارات خارج البلاد، ورفع مستوى التضخم، وانتشار البطالة بصورةٍ كبيرة، وانخفاض حجم الصادرات غير النفطية، وتدني وانحسار الطبقة المتوسطة داخل المجتمع الإيراني، واتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء)، مختارات إيرانية، العدد 72، يوليو .2006 لقد استطاعت الطبقةُ الحاكمة الدينية – البيروقراطية – العسكرية من إدارةِ وإستغلالِ أغلبية الثروة، وعبر قيادة رفسنجاني توجهتْ فوائض كبيرة نحو الصناعة ولم تعدْ فئةُ تجارِ البازار مؤثرة بذات القوة كما في السابق في الفضاءِ السياسي، ورفسنجاني نفسه صار ليس قوة سياسية كبيرة فحسب بل قوة اقتصادية ضخمة واتسعت مشروعاتهُ التجارية والصناعية إلى درجةٍ خرافية، وهو ملمحٌ رأيناه لديه في أيامهِ السياسية الأولى ومن خلال جهوده، ولم يستطعْ خصومهُ أن يثبتوا عليه سرقةً، وتم فقط حبس رئيس تحرير جريدته وعمدة إيران السابق الذكر غلام حسين كرباتشي بسبب اتهامات بسوء الإدارة للعاصمة التي طورها وجدد أسواقها الرأسمالية الكبيرة خاصة في قسمها الشمالي.إن الرأسماليةَ الحكوميةَ التي وسعها رفسنجاني عانتْ تناقضاتٍ جوهرية فهي تريدُ أن تضبطَ العمليات الاقتصادية بهيمنةٍ شمولية، وأن تساعدَ الكادحين وأن توسعَ أرباحَ الرأسماليين كذلك، وأن تغدو دولةً وطنيةً دينيةً مغلقةً وأن تفتحَ الأبوابَ للشركات الأجنبية والنوافذَ للحضارة الغربية!هذا المنحى الغربي الرأسمالي الانفتاحي السلمي لدى الرئيس رفسنجاني قُوبل بهجومٍ واسعٍ من قبل القوى المحافظة المتشددة ومن اليسار التقليدي، ورغم تخفيف ولاية خاتمي من هذه الاستقطابات فإن موجةَ المحافظين(والاشتراكيين) تصاعدتْ خوفاً من تمزقِ اللحمةِ المذهبية القومية الاجتماعية، ومن ظهورِ الرأسمالية الحرة وصراعِ اليمين واليسار المكشوف، وتجلى ذلك في موجةٍ سياسية رفعت أحمدي نجاد إلى السلطة.وقد حافظ مرشد الجمهورية على موقف وسطي بين تياري الليبرالية الدينية والشمولية ثم انحاز للتيار الأخير، بسببِ تصاعد قوة العسكر ومشروعها الرأسمالي الحربي الحكومي. في حين واصل رفسنجاني النفخَ في اتجاهه، وبذا وجدَ رفيقا السلاح نفسيهما في خندقين متضادين.ورأى رفسنجاني في موسوي تحولاً نحو اليمين الليبرالي بعد اتجاهه (الإشتراكي) الحكومي فساندهُ وحاولَ عبرَهُ استعادةَ الحكمِ الليبرالي الديني. فقد وصلتْ الرأسماليةُ الحكومية إلى تناقضاتٍ عميقةٍ عبر سيطرةِ الإقطاع الديني عليها، والمشكلات لم تكن فقط في الاقتصاد بل كذلك في الحريات والثقافة، فقوى المحافظة الريفية واصلتْ فرض فهمَها النصوصي الجامدَ للإسلام كما أعاقتْ قوى إنتاج كبيرة من الانخراط في عملياتِ التحول الحديثة الاقتصادية والثقافية وجاء العسكرُ ليتوجَ الأزمةَ ويقربها من حافةِ البركان، وبالتالي راح رفسنجاني يقاربُ الحداثةَ بأشكالٍ بسيطة، ويدعو للسلام والحريات، ويرفضُ العديدَ من التصورات الدينية السحرية بأشكالٍ حادة في بعض الأحيان.لكن لم يستطعْ رفسنجاني بسببِ أدواتِ وعيهِ النصوصيةِ الدينية المثالية المُبسطة أن يقرأ بدقةٍ إشكالية(الليبرالية الدينية). راجع مثلاً فهمه الإنشائي العاطفي لمعنى الاستعمار في مقدمة كتابه المترجم للفارسية المعنون بـ (القضية الفلسطينية) والذي راجعَ بنفسهِ ترجمتَه العربية. فقد بقي في موقف البرجوازي الصغير دائماً الرافض للبنية الرأسمالية الحديثة والأفق الاشتراكي معاً. أي لم يستطع أن يطورَ رؤيته باتجاه الحداثة والعلمانية والديمقراطية مثلما حدث للعديد من القادة الإيرانيين الدينيين المعارضين وهو أمرٌ ليس شخصياً فحسب بل هو نتاجُ نشوء الرأسماليةِ في الشرق بشكلٍ حكومي وفي إيران بشكلٍ حكومي ديني محافظ.

 
صحيفة اخبار الخليج
7 يونيو 2010