المنشور

هاشمي رفسنجاني(1)

لم يرتبط أحدٌ بمصيري الثورة والدولة الإيرانيتين على مدى الثلاثة العقود السابقة كما ارتبط بهما هاشمي رفسنجاني، فقد وُلد في خلايا الثورةِ الصغيرةِ في مدينة قم وبراعمها الغضة، حين أسستْ أولَ نشرةٍ متواضعةٍ ووزعتها عبرَ البريد، ثم صارَ الرجلُ في كلِ مواقعها المتقدمة على مدى كل السنوات حين انتصرت وصارت دولة كبيرة لها آثار على المنطقة والعالم.والآن نأتي في هذه اللحظة في سنة 2010 لكي يُـقذف القائد بكل أنواع التهم والحجارة!؟ وهذا يدل على تناقضات التاريخ الغريبة، فكيف جرى كل هذ؟!لقد وُلد سنة 1934 بمدينة رفسنجان بمقاطعة كرمان، في عائلةٍ تجمع بين المُلكية والعمل، بين الطابع الريفي والهوى المدني، بين الانتماء للإقطاع القديم والبرجوازية الباحثة عن التغيير، أقدامُها في الماضي ونظرها إلى الحداثة والتقدم.وتشكل هذا التجميع بين الجانبين المتضادين في شخصية هاشمي وهو غيرُ منتمٍ إلى الأسرةِ الهاشمية المعروفة، وظهر في عائلةٍ شيعية تعكسُ في إيران نضالَ ألف سنة من التغلغل الإمامي في بيئة مجوسية ثم في سنية محافظة ثم في إماميات أخرى، وهذا التتويج خلقَ شبكةً هائلةً من رجالِ الدين في كلِ حي بمدينة وفي كل قرية، فحفرتْ الإثناعشرية نفسها كمفتاحٍ أساسي للتحولِ والنضال في إيران، وكان فرحُ هاشمي في بلدته الزراعية الخصبة بالفستق والقمح والفواكه، وبالغنى النسبي لعائلته، وبمذهبه، تعبيراً عن شخصية منفتحة صبورة كالفلاح ورائية للغد كالتاجر بعيد النظر.إن الحضورَ الشاملَ للمذهب يتشكلُ من إسراع هاشمي ليكون فقيها فيغادرُ قريتَهُ مع أخيه، وفي الحين ذاته تمضي العائلة إلى زيارة النجف، ثم هو يتجذرُ في مدرسيةِ قُم، التي كانت مركزاً جديداً للفقه الشيعي، لكن المركزَ اكتسب حيويةً هائلة بسبب الغليان الديني الذي يجري في أعماق هذا الشعب الموحد الكبير النهضوي، والغليان القومي المتأجج الذي لم يُمسّ باحتلال غربي.فيما بعد الحرب العالمية الثانية كان العالم النامي المستعمر في حالةِ ثوران، فكلُ البلدان كانت تتحررُ وتنتفض، وهذا الغليان تسرب بقوة للشعب الإيراني!لكن في هذا التأجج التحرري كانت حكومةُ الولايات المتحدة في ذلك الحين قد دبرت انقلاباً أطاح برئيس الوزراء الإيراني المحبوب، مصدق، وأنشأت نظاماً تابعاً، وأطلقت يد الشاه الشاب في الهيمنة، وهو وريثٌ غيرُ ذي تجربة، وعائلتهُ الصغيرة تفتقدُ إلى سلالةٍ مؤثرة ذات تجربة عريضة، فعوض هذا النقصَ الثقافي في تاريخ شعبه بغرور إمبراطوري، وجاءته ثروةُ النفط فتبطر أكثر.هذه الحمى السياسية التي كانت ترفعُ النظامَ إلى انتفاخ البالونة السماوية، كانت تجعلُ شبابَ الأرياف يعودُ إلى جذورهِ البسيطة المدرسية المحافظة ويتصورُ انها مفاتيح العالم، ويخبرنا هاشمي في مذكراتهِ كيف عاشَ وتعلم في مدينة قم، وكيف حفظَ نصفَ القرآن وألفيةَ ابن مالك وكيف درسَ على يد رجال دين عديدين مسائل المنطق وعلم الأصول وأقساماً من الفقه ومن التفسير والفلسفة. دراساتٌ وقراءاتٌ كلها تقليدية ليس فيها الاقتصاد السياسي والفلسفة الحديثة وغيرهما، ولكن تلك العلوم التقليدية هي التي ستكونُ قادةَ دولة حديثة.في التعلم تتشكلُ العلاقاتُ الدينيةُ والسياسية، وكان أحدُ جيرانه المرموقين الإمام الخميني، وهناك آخرون مثل آية الله شريعتمداري، وكانت المظلةُ الدينيةُ كلها تحت قيادة آية الله العظمى البروجردي، وهذا الرجلُ قد أسس بالشكلِ الموسع مركزَ قم الديني في إيران والعالم الإسلامي والعالم وقرّبهُ من العصر.ومع هذا فقد كانت الانتقاداتُ تنصبُ عليه، وقد عبرت الانتقادات عن الطابعِ المحافظِ الجامد للبروجردي كما كانوا يقولون، فهو لم يستطعْ أن يعبرَ عن ذلك الغليان الشيعي القومي الإيراني كما كانوا يريدون، وكان يتبادل التحيات والمجاملات مع الشاه، ويُسيّرُ أمورَ الطائفةِ بشكلٍ هادئ رفيق، مثلما يعرفُ السياسةَ بعمق، ولكنه لم يُردْ أن يورطَ الطائفة في صراعٍ تاريخي هي غير مُعدة له فيجري إقحامها في الصراعات السياسية الكبرى، وفضل التأني والصبر والبناء الفكري المتريث، وحين مات ظهرتْ الفجوةُ الكبيرة في كيانِ المرجعية بين قطب ماضوي راحل محافظ لم يُسيس الطائفة وبين قادة جدد متحمسون لذلك، وتدخلتْ السلطةُ في الترشيح لمواصلةِ مثل ذلك الخط الهادئ، وبدا أن السيطرةَ على قيادة المرجعية ذات أهمية تاريخية سياسية كبيرة!لقد قامت بعضُ الحيثيات العملية الصغيرة في مدينة قم لنقلةٍ غيرِ متوقعة في غياب مرجعيةٍ تاريخية كبرى، فقد أحاطَ تلامذةٌ نشطون بالخميني، الهادئ، المنعزل الدارس، ورُددت انتقادات للبروجردي كانت مرفوضة عنده، رغم أن التلامذة لم يوافقوا على سلبية البروجردي السياسية، وأيدوا انتقادات الخميني الذي كان قد كتبَ كتاباً أدبياً ينتقدُ فيه الشاه! وراح منذ ذلك الحين يُصعد انتقاداتٍ مهمةً للنظام. لقد جذبت هذه الانتقادات رجالُ الدين الشباب، وكان من أبرزهم رفسنجاني، الذي جمع أول حلقة في مسيرة الثورة الطويلة من هنا، عبر إصدار نشرة تُوزع في مختلف أنحاء البلاد بإمكانيات فقيرة، ولكنه وهو الديني النشط والتاجر الذكي، الذي تمكن من آلية الوعظ واستثمره للتوعية والحصول على دخل للمعيشة، حول عمله السياسي التوعوي إلى مطبعة تجارية كذلك. وكان شريكه في حلقات هذا العمل النضالي خامني إيه المرشد الحالي فقد تزاورا وعاشا في بيت واحد أُعد للقيادة في طهران.هذه المهارة على الجانبين الديني والمعيشي، التي يتمتع بها هاشمي استمرت على مدى عمره السياسي ونضالاته المختلفة، فكان في مرحلة الصراع مع السفاك يبني بيوتاً ويبيعها كما ألف كتابين حصل منهما على شيءٍ من الدخل، لكن هذه الجوانب المعيشية والكتابية لم توقف عمله الرئيسي في القيادة السياسية!لقد تعهد رفسنجاني تلك النبتة الفكرية – السياسية الصغيرة حتى صارت شجرة عملاقة فيما بعد من السنين.

 
صحيفة اخبار الخليج
6 مايو 2010