المنشور

جياع العالم.. والمقتدرون المقترون (2-2)

لئن عبرت النداءات التي وجهها الدالي بلقاسم (المدير الاقليمي لبرنامج الاغذية العالمي) إلى أغنياء العالم والتي يستصرخ فيها ضمائرهم لانقاذ مليار انسان من الهلاك جوعاً عن المرارة والألم اللذين يشعر بهما الرجل من تجاهل مليارديرية العالم – دولاً وشخصيات – لتلك المأساة الانسانية الجماعية، فإن نداءات جاك ضيوف المدير العام لمنظمة الاغذية والزراعة ومن موقع مسؤوليته الدولية والانسانية باعتباره الرجل الأول في هذه المنظمة المعنية باغاثة جياع العالم، ومن موقع أيضاً خبرته المديدة في المنظمة ذاتها، ومن ثم المامه الدقيق الشامل والمعمق ليس بخريطة الجوع في مختلف أصقاع العالم فحسب، بل بالمتسببين الفعليين في خلق معظم حالات وأوضاع الجوع في المعمورة.. لكل هذه الاسباب مجتمعة فإن نداءاته التي استصرخ فيها “ضمائر” هؤلاء الميتة جاءت اكثر غضباً وسخطاً لما يبدونه من لا مبالاة وتفرج متواصل وعدم اكتراث بهذه المأساة الجماعية.
واذا كان ضيوف بحكم مسؤوليته الدولية في تلك المنظمة لم يسم بالاسم المسؤولين عن الكارثة، دولاً وانظمة وشركات، سواء على الصعيد الداخلي لكل دولة ام على الصعيد العالمي بوجه عام، إلا أنه يحسب له جرأته في تعرية نفاق الدول الغنية الصناعية (الرأسمالية الكبرى على الأدق) لمماطلاتها الدؤوب في الاضطلاع بمسؤولياتها الانسانية، ناهيك عما تبدده من أموال طائلة في صناعة التسلح وتجارة الاسلحة (تريليون دولار) في حين ينام مليار انسان جائع كل ليلة، بل في كل 6 ثوان – على حد تعبير ضيوف – يموت طفل في مكان ما من هذا العالم نتيجة الاصابة بمرض من الأمراض ذات الصلة بالجوع، مما يعني ان اكثر من خمسة ملايين طفل يموتون جوعاً في كل سنة.
وهو يضيف ساخرا بمرارة من نفاق وتسويف تلك الدول الغنية الكبرى: “انهم يصدرون بين حين وآخر تصريحات رنانة يتعهدون فيها بأن ثمة اجراءات مبكرة وحاسمة لكن دعوني الآن أصرخ مرة أخرى بالصافرة”.
وعلى سبيل المثال لا الحصر يشير ضيوف إلى انه بالرغم من مرور ما يقرب من سنة على تعهد زعماء الدول الثماني الصناعية الكبرى باستثمار 22 مليار دولار في 3 سنوات لانتاج الغذاء لصالح البلدان الفقيرة فإنه لم يكد يصل شيء إلى تلك البلدان.
ويرجع ضيوف استرخاص هؤلاء الزعماء المماطلة تجاه مليار جائع في العالم لان الكلمات ارخص من الفلوس، فالكلمات لا تسد رمق اصحاب البطون الخاوية، وإذا كنا في حلقة الأمس وصفنا بأن مظاهر البطالة والفقر والجوع في العالم تشكل معاً اخطر قنبلة موقوتة آنية تهدد السلم الأهلي في كل دولة والسلم العالمي عامة فإن “ضيوف” لا يتوانى عن تعليل القلاقل والاضطرابات التي شهدها 32 بلداً في العالم خلال عامي 2007 و2008م فقط بالجوع وكل المشكلات المرتبطة به.
ولعل ما جعل ويجعل نداءات جاك ضيوف العديدة التي ما فتئ يوجهها بين الفينة والاخرى تتصف بالحرارة الصادقة صادرة عن ضمير انساني حي ليس كونه يمثل الشخصية الدولية الأولى المسؤولة عن متابعة مأساة مليار جائع في العالم فحسب بل ينتمي إلى القارة الأكثر فقراً ومنكوبية بالكوارث البشرية المتعددة في العالم.
نداءات مدير عام منظمة الاغذية والزراعة جاءت في متن مقالة له بالشرق الاوسط 10/5/2010م تحت عنوان “الرجل الجائع رجل غاضب” ولربما لو كان على المام كاف بالتراث الاسلامي لوجد في مخزونه جملة من الحكم والاقوال المأثورة اكثر تعبيراً عن مأساة مليار جائع الراهنة ومن يقفون وراءها في عصر الرأسمالية العالمية المتوحشة فعنوان مثل “الرجل الجائع.. رجل كافر” اكثر تعبيراً يليق بمقاله الرائع اقتباساً من المقولة المأثورة “الجوع كافر” ولو علم بها مقدماً لما تردد عن تعليل الاضطرابات الاجتماعية التي حدثت في 32 دولة عامي 2007 و2008م بها ولكانت مقولات مأثورة للامام علي “عليه السلام” من قبيل “لو كان الفقر رجلاً لقتلته”، أو “ما نعمة موفورة إلا وراءها حق مضيع”، أو مقولة أبي ذر الغفاري ذات المنحى المجازي في المبالغة لا التطرف “عجبت لمن لا يلقى قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه!”.. لكانت كل تلك المقولات حاضرة بقوة بين سطور مقالته الضافية.
ضيوف متأثراً ربما بقرب بطولة كأس العالم التي ستقام في قارته (بجنوب افريقيا) التي ستصرف عليها مليارات الدولارات على أرض القارة التي تشكل المرتع العالمي الاكبر للجوع والفقر والأمراض استعار غير مرة في تعبيراته لتحذير العالم من هلاك مليار جائع “سأصرخ بالصافرة” من هذا الوضع لكن ليته أوضح نوع هذه الصافرة، كرة القدم لن تنفع مع من هم بكم وماتت ضمائرهم بل لن تنفع معهم حتى صافرات الانذار الخاصة بالغارات الجوية حتى حينما تأزف حرب كونية جديدة بعد أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً مع مليار جائع يقضون نحبهم تباعاً.

صحيفة اخبار الخليج
26 مايو 2010