المنشور

يوم القبض على زوربا


ذات مرة منذ سنوات عديدة كان الشاعر العراقي الراحل عبدالوهاب البياتي آتياً من برلين إلى بغداد مروراً بالعاصمة اليونانية أثينا. في الطائرة كان يجلس إلى جانبه رجل يقلب جريدة «اللوموند»، فاستأذن منه البياتي ليدخن، فأجاب: «تفضل، فالتدخين لا يزعجني»، ثم سأله إلى أين أنت ذاهب، فرد البياتي إنه عراقي وعائد إلى بغداد. قال الرجل مخاطباً البياتي: هل أنت مدرس؟، فأجابه: يشرفني أن أكون مدرساً ولكني شاعر. عند ذلك تنهد الرجل، ووضع الجريدة جانباً، وأخذ يُحدثه عن العذابات التي يكابدها الشعراء والكتاب والفنانون والعُمال في اليونان علي يد الانقلابيين العسكر الذين كانوا يسيطرون على البلاد يومها، وكيف أنهم يرسلون الشعراء والمثقفين إلى الجزر اليونانية النائية ولا يسمحون لذويهم أن يزوروهم.

حين هبطت الطائرة في مطار أثينا، صعد ضابط قبل نزول الركاب وتوجه تحديداً إلى الرجل الجالس بجوار البياتي، ووضع القيود في يديه، ومضى معه حتى قبل أن يتمكن جاره في الرحلة من توديعه. حين عاد البياتي إلى بغداد لمعت الفكرة في ذهنه، وكتب قصيدة «سلاماً أثينا» المنشورة في ديوانه «عشرون قصيدة من برلين»: «لعل في «الأولمب» لاتزال، آلهة الإغريق تستجدي، عقيم البرق في الجبال، طعامها الخبز وآلام الملايين من الرجال، قلت: سلاماً وبكى قلبي / وكان الفجر في الأطلال، يضيء وجه العالم الجديد، وجه شاعر يحطم الأغلال«.

بعد سنوات من هذه الواقعة، كان البياتي في باريس، فاقترح عليه أحد أصدقائه أن يذهبا إلى مطعم يوناني يقع في شارع ضيق متفرع من (السان ميشيل)، ففوجئ وهو يدخل المطعم، برجل بصحبة امرأة يتصدر إحدى الموائد، وكان ينظر إليه بين الحين والآخر، وقبل أن يغادر البياتي مع صديقه المطعم أخبره الجرسون أن الرجل الذي يجلس قبالك قد دفع الحساب فهل تعرفه؟ فأجاب البياتي بالنفي، فشرح له الجرسون أنه الموسيقار اليوناني العظيم ميكيس ثيودراكيس مؤلف موسيقى فيلم (زوربا) اليوناني.

تقدم إليه البياتي شاكراً، فرد الموسيقار الشهير: كنت أراقبك وأنت تدخن بنهم، فتذكرت أننا التقينا منذ سنوات في الطائرة المتجهة من برلين إلى بغداد مروراً بأثينا. تذكر البياتي الواقعة جيداً، وكان يعلم أن ثيودراكيس في سجون العسكر في اليونان، دون أن يعلم أنه هو ذاته الشخص الذي أقتيد مخفوراً من الطائرة أمامه وأمام جميع ركاب الطائرة، وفهم من ثيودراكيس أن السلطات العسكرية أطلقت سراحه تحت تأثير حملة التضامن العالمية الواسعة معه، وتجنباً للحرج.

سيذكر عبدالوهاب البياتي هذا الحديث المؤثر فيما بعد، ويكتب عنه: «كنا أربعة: أنا والموسيقى الأعمى، ودليلي، ومغني آلهة الأولمب الحكماء». وبعد سنوات سيعيد سردها بتفاصيلها في كتبه: «مدن ورجال ومتاهات» الذي يحكي فيه فصولاً وتفاصيل من سيرته الذاتية وحياته التي توزعت على المدن، مذكراً إيانا بالمذاق المختلف لتلك الأيام.
 
صحيفة الايام
26 مايو 2010