المنشور

السياحة في مجتمع إسلامي!

ترك المجتمع الماليزي بين الزيارتين المتباعدتين 1996 – 2010 انطباعا مختلفا عما كان هو مفترض توقعه في ثقافة بلد إسلامي يهمه ارتفاع وزيادة دخله السياحي، وفي ذات الوقت يهمه الحفاظ على هويته الثقافية والدينية، دون ان ترتبك الحسابات الحقوقية والدستورية داخليا لمجتمع تعددي ومفتوح في منطقة تتصادم وتتصارع فيها مصالح البلدان الأسيوية والعالمية. بإمكان الزائر اليوم تحسس الجوانب الدينية في المجتمع الماليزي وطباعه وثقافته بل وزيه المحافظ المتعدد بالوان جميلة لا تشعرك بسوداوية الاشياء ومظاهرها، فالحجاب هناك مريح والملابس ايضا لا تجعلك تشعر بانك في مجتمع مرتبك واستفزازي وضاغط سواء من سلوك المجتمع والافراد انفسهم ام من العلاقات الاجتماعية السائدة التي تتلامس مع شتى أشكال الاحتكاكات الأجنبية، والمثير انك لن تجد النقاب ظاهرة ماليزية نجح الاخرون في اختراقها. لا ترى في المحلات غضبا دينيا من ملابس الآخرين بالشورت، فالفتاة المسلمة المتحجبة اعتادت حرية الاختلاف، واعتادت تعدد الخطاب اليومي بين اطياف المجتمع الماليزي واطياف زوار المجتمع الغرباء، الذين جاؤوا لكي يقضوا إجازات ممتعة من شتى بلدان العالم ولكنهم لم يرتطموا بصخور التزمت ولا بسلوكيات انسان محافظ يحمل لهم من الضغينة والكراهية لمجرد انهم مختلفون.
 
لم اشعر من تزمت الماليزي الذي يعمل بجانب مواطنه من اصل هندي وصيني في مواقع مختلفة من الفنادق، اذ بامكانك ان تجده يعمل في المطعم والاستقبال والخدمات المختلفة بما فيها حانات فندق متعدد المشارب، حيث بامكانك أن تجد ظاهرة حداثية للجيل الماليزي المسلم، الذي يؤدي طقوسه الدينية بفهمه وتربيته، ولكنه قد لا يمانع العمل في امكنة نحن في البحرين نجدها محرمة وممنوعة من المصادر الدينية.
 

بامكانك ان تتحدث لهن في كل مكان بكل انفتاح ومرونة وعلاقات انسانية، عندما يشعرن بانك تحترمهن كنساء وفتايات ماليزيات لهن ثقافة وديانة مختلفة عن ابن وطنهن الاخر، ويتحركن في مواقع مهنية عديدة بحجابهن دون ان يشعرنك بانهن خجلات او مرتبكات من زبون رجل جاء للشراء وسيكون من ثقافة مختلفة وقد يجد في التجربة هناك ينبوعا جديدا ربما لن يراه في حجاب اوروبا السياسي، اذ تحولت الحالة الاوربية الى موضوع سياسي بينما ظل الحجاب والتدين في ماليزيا الاقرب للحالة التركية والابعد عن الحالة الباكستانية، مسألة روحية ودينية واخلاقية لها وضع مختلف.

وتحتاج العين الى رصد الاشياء والامكنة للمقارنة بين الحالة الماليزية التي تتمدد نحو الانفتاح العالمي والسياحي يوما بعد يوم، والحالة العربية عندنا التي تتقلص يوما بعد يوم باشكال عديدة من التزمت والقيود دون معنى او حسابات دقيقة للانتكاسات الاقتصادية والسياسية. وجدت الشوارع والمقاهي النشطة بجاليات عربية واسلامية من ايران والعراق وتركيا وباكستان وحتى الهند جنبا الى جنب مع الجنسيات الغربية والاسيوية في مجتمع كوزموبوليتاني داخل مقهى واحد يقدم لك كل انواع الاطعمة والشراب وعليك ان تختار ما تحدده ثقافتك وتحدده سلوكياتك وقناعاتك كسائح جاء لبلد مسلم الهوية والاطباع، ولكنه في الوقت ذاته ترك مساحة من المرونة والاستجابة لكل ما هو مختلف ومغاير وغريب دون اي تدمير لنسيج هويته الاساسية.
 
التعددية المجتمعية بدت منسجمة هذه المرة اكثر من السابق، والانفتاح الاجتماعي الماليزي صار اكثر تقدما في الفهم للمحيط الاقليمي والداخلي والعالمي في عالم سياحي يتنافس على رفع رصيده من الدخل الوطني القادم من هذا القطاع الحيوي. كنت سعيدا في داخلي وانا أرى الفتيات المتحجبات يتحركن داخل إطار اجتماعي اوسع دون أي ارتباك وخجل او اهتزاز في الشخصية، اذ لم تكن تلك الظاهرة السبب الوحيد المدمر لرجعية أي مجتمع وانما السلوك الاجتماعي والعدائية هو وحده الذي يضع العراقيل بين الثقافات المتعددة، ليس بين الاجانب والمواطنين وحسب بل وبين المواطنين انفسهم ايضا، عندما لا يتم فهم المختلف وتعايشه مع المشترك جنبا الى جنب بشكل متـناغم.



في مجتمعاتنا مازالت الحالة السياحية في نمطها الاسلامي تخلط بين الاشياء وتتداخل فيها الحالات المسموحة والممنوعة وتفرض الواحدة نفسها على الاخرى بل وتحاول التسيد والسيطرة الى حد الاستبداد. اليوم البحرين تمر في منعطف تاريخي لاقتصادها وتجربتها السياسية بسبب الرؤية الضيقة لمسألة المسكرات، والتدخل السافر باسم الدين في قضايا دستورية تمس الحريات الشخصية، ولا يمكن فهم الحريات بشكل ساذج ويترجم وفق الرغبات الدينية والاخلاقية، فلكل انسان حق في العيش الحر والاختيار الحر الذي يمنحه القانون والدستور والحقوق، تلك الحقوق التي باتت يوميا تنتهك تحت حجج دينية مستترة ومعلنة، فهل سنتعلم من تجارب اسلامية متقدمة ام نسقط في شراك تجارب اسلامية برهنت فشلها الذريع؟
ما نحتاجه في البحرين الخروج من تناقض الازدواجية المجتمعية والدخول في حلها بتجاوزها انسانيا لكوننا نعيش واقعا حياتيا قبل ان نعيش في الماضي وفي المجهول، وفي نصوص لم يحسم امرها داخل البيت الاسلامي المتعدد المذاهب والملل، بل ولا يمكن تقدم أي حالة انسانية بعلومها المختلفة عبر نافذة التفسيرات الدينية للحياة المتحركة الفياضة بالمعطيات والتجارب الحداثية، والتي كثيرا ما وضعتنا في وضع ملتبس بالاسئلة وملتبس في الاجابات الاكثر ضيقا من اتساع الحياة نفسها وحركتها وتجديداتها.

السياحة منبت لا يمكن تدجينه بطريقتنا الحالية ولا سجنه في قفص التزمت بالمنع والتهديد والبكائيات الزائفة على هوية المجتمع، الذي في شكله اسلامي ولكنه في المضمون يظل مرتبكا ومضطربا، حيث العلن مختلف عن السر كخيانة زوج واب متزمت في البيت غير انه يعود اخر الليل بعباءة الشيطان، فيسبح في ملكوت مملكة التناقضات بين حالة الخوف من النار والرغبة المحمومة بالفردوس.
 
الأيام 25 مايو 2010