المنشور

مركز وأطراف..!

في الأدبيات الاقتصادية والاجتماعية يدور نقاش طويل حول آليات العلاقة بين مجموعة البلدان التي كانت تدرج في خانة ما يعرف بـ «العالم الثالث» وبين العالم المتقدم، أو بلغة سمير أمين العلاقة بين المركز والأطراف، أو ما تدعوه بعض المدارس الاقتصادية في أمريكا اللاتينية خاصة، بنظرية التبعية.
ولم تؤد التطورات الدولية بعد تداعي نظام القطبين، وتبوؤ المعسكر الغربي لصدارة العالم منفرداً إلا إلى زيادة هذا النقاش حدة وعمقاً، ويتمحور أحد مفاصل النقاش حول ما إذا كانت هذه الآلية تميل نحو العزل أو نحو الدمج، وهما كما نرى آليتان متناقضتان في الشكل، ولكن مساحة التداخل بينهما، رغم ذلك كبيرة.
في السابق كانت السيطرة أو الهيمنة التقليدية المباشرة إذ تحكم سيطرتها على البلدان الفقيرة أو النامية وتحرص على عزل هذه البلدان بإبقائها في دائرة الجهل والتخلف والعوز واستخدامها كمواطئ نفوذ إما للهيمنة على ما فيها من ثروات إن وجدت أو تحويلها إلى نقاط على طرق التجارة الدولية أو كجسور أمامية في الاستراتيجية العسكرية خاصة في تلك الفترة التي اشتد فيها التنافس بين الضواري الاستعمارية أو في فترة الحرب الباردة.
لكن الحديث يدور الآن عن الدمج لا عن العزل، بمعنى إشراك هذه البلدان في بنية الاقتصاد العالمي، ويتحدث البعض عن تعميم مستوى الرفاه العالمي، وتوحيد نسق الاستهلاك وإذابة الحواجز بين الشمال والجنوب، فبرأيهم أنه في الاقتصاد الحديث القائم على التفريع والتخصيص ليس مطلوباً من جميع بلدان العالم أن تصبح بلداناً صناعية أو منتجة، يكفيها مثلاً أن تكون بلدان خدمات أو سياحة وما إلى ذلك.
لكن هذا الرأي وإن تضمن عناصر صحيحة، فإنها تأتي مخلوطة وعن قصد بعناصر أخرى مغرضة، ذلك أن الدمج الراهن هو في حقيقته نوع جديد من العزل، يعيد تشكيل مفهوم التبعية وصياغته وإعادة تقديمه برداء جديد، وهو يرمي إلى نفي مسؤولية التقسيم الدولي الراهن للعمل عن تخلف العالم النامي وفقره، ورد ذلك إلى عوامل داخلية خاصة بكل بلد من بلدانه، في الوقت الذي تؤكد فيه تقارير المنظمات الدولية أن الهوة بين الشمال والجنوب هي إلى ازدياد لا إلى تضاؤل، ويزداد الأفق انسداداً بوجه الغالبية الساحقة من الدول النامية.
إن ثنائية العزل والدمج ليست بعيدة عن ثنائية التوحيد والتشظي التي تفعل هي الأخرى فعلها في عالم اليوم، عالم ما بعد الحرب الباردة تحديداً، فرغم أن العالم يسير قسراً أو طوعاً نحو وحدة ظاهرية، إلا أن مظاهر التشظي والتفكك وانقسام العالم إلى دويلات يسير جنباً إلى جنب مع هذا التوحيد، بل كأن آلية التشظي هذه تبدو في بعض الحالات كما لو كانت مجرد مظهر من مظاهر هذا «التوحيد» الظاهري.
 
صحيفة الايام
18 مايو 2010