المنشور

تهميش المفكرين وأزمتنا الحضارية


إن العلماء والمفكرين والعباقرة والباحثين على طول الساحة العربية يظلون مهمشين سواء في حياتهم أو ما بعد رحيلهم بمزيد من الإهمال والتجاهل والنسيان خارجين عن دائرة الضوء وبعيدين عن تسليط الأضواء على مبتكراتهم وإبداعاتهم ونتاجاتهم.. بينما يظل الرياضيون وأبطال الرياضة العربية جميعا محاطين بمظاهر التشريف وحفلات التكريم والتخليد أثناء حياتهم ومماتهم على حد سواء، حاضرين في دائرة الضوء في أي وقت، خاطفين الأضواء الإعلامية لأنشطتهم الرياضية في اللياقة البدنية، والتدريبات الرياضية والتأهيلات الكروية في كل الأوقات.. لكون أنظمتنا العربية قاطبة قد جعلت من الأبعاد الرياضية سيدة للموقف السياسي.. ولطالما سعى هذا النظام الرسمي أو الآخر إلى ارتباط (الأبعاد الرياضية) بـ (الأبعاد الاجتماعية) ارتباطا محوريا بل استراتيجيا في الوقت الذي تجاهلت فيه هذه الأنظمة العربية (الأبعاد التنموية الشاملة) وفي مقدمتها الأنساق التعليمية والمفاهيم التربوية والعلمية والفكرية والإنسانية وفصلها فصلا ميكانيكيا عن (الأبعاد الاجتماعية).

من هذا المنطلق فإن الشعوب العربية قد وجدت عظماءها ومفكريها ومبدعيها وقد استبد بهم اليأس إلى درجة البؤس والإحباط والفشل وخيبة الأمل أثناء حياتهم، مثلما تطوى صفحة النسيان حول إبداعاتهم وملاحمهم وتضحياتهم بعد مماتهم.

إن مبعث هذه المقدمة الموجزة هو رغبتنا التطرق إلى الذكرى السابعة عشرة لرحيل العالم والمفكر المصري الدكتور جمال حمدان.. رحل هذا الإنسان العظيم في منتصف شهر ابريل عام 1993 من دون أن تبدي الدولة أدنى اهتمام بل أحكمت على يوم رحيله طوقا من الكتمان والتجاهل والنسيان.. لأن مظاهر التكريم وتداعيات التخليد برحيل هذا المفكر الكبير قد ظلت خارجة عن دائرتي الضوء والاهتمام كغيابها مع إشراقة كل عام جديد لرحيله.

ومثلما ألغي يوم رحيل هذا العبقري من الذاكرة الرسمية.. فإنه ظل أيام حياته يعاني الاضطهاد المركب: اضطهاد إدارة الجامعة التي كان يحاضر فيها أستاذا والتي اعتمدت مظاهر الواسطة والمحسوبية والوجاهة والفساد الإداري على حساب مبادئ الحيادية والنزاهة وعلى حساب المؤهلات والكفاءات والشهادات التي يتمتع بها المفكر جمال حمدان.. واضطهاد النظام السياسي الذي لم يحرك ساكنا لدعم المفكر الراحل حينما رفض أساليب الجامعة المهينة في استلاب كرامته وتهميش مكانته من حيث تقريب أصحاب المكافآت على حساب أصحاب الكفاءات وحين محاباة المتسلقين والانتهازيين على حساب المهارات.. بينما النظام الرسمي ظل صامتا حتى تخلى عن أحد عظمائه وعباقرته في أصعب اللحظات على الإطلاق بعد انسحابه من الحياة العامة وانطوائه على نفسه في شقته طوال عشرين عاما بالتمام والكمال منذ عام 1973 حتى يوم رحيله عام .1993

ولكن الأدهى من ذلك كله فإنه بدلا من رد اعتبار هذا العبقري العظيم جمال حمدان وتكريمه بأي شكل من الأشكال بعد رحيله كإقامة نصب تذكاري له أو إطلاق اسمه على أحد شوارع جمهورية مصر العربية أو إحدى الجامعات أو أحد المتاحف أو أي معلم من المعالم التاريخية فإن الدولة بمختلف مؤسساتها الرسمية والمدنية والشعبية والمهنية والحقوقية لم تدفع أدنى اهتمام لما أبدع أحد مفكريها في صومعته وأنتج أعظم موسوعة علمية وسياسية وجغرافية وأدبية وأيديولوجية وهي موسوعته الشهيرة “شخصية مصر”.

مثلما تجاهل النظام الرسمي وفاء هذا الرجل العظيم، هذا الابن البار الذي أعلن ولاءه لوطنه، والارتباط بأرضه، والتشبث بهويته ومواطنيته، حينما لم يستقطب بعوامل الجذب كسائر الكثير من العلماء والمفكرين والهجرة إلى الدول المتقدمة التي بدورها أعطت العباقرة وعظماء الوطن العربي بالغ الاهتمام ووفرت المكانة الرفيعة لهم وعظيم الاعتبار لنتاجاتهم.

وحينما لم يتأثر الراحل الحاضر جمال حمدان بعوامل الجذب فإنه تجاوز محنة عوامل الدفع والمتمثلة في مكابدته القهر السياسي ومعاناته الاغتراب الذاتي والداخلي والنفسي والاجتماعي، وبحسب رزوح هذا الإنسان هذا العبقري العظيم تحت طائلة عملية المخاض العسيرة بأبلغ آلامها وأوجاعها فإنه بالمقابل وفي الوقت ذاته قد كشف عن أزمة حضارية يعانيها الوطن العربي بأسره.. ولكن أولئك العظماء العرب حاملي منارة العلم والمعرفة والفكر والكلمة وراية الحرية ولواء الكرامة الإنسانية قد سعوا إلى تلاشي تداعيات تلك الأزمة الحضارية بإصرارهم على شق سدول التخلف الشديد بجميع مظاهره وأشكاله وذلك بتأثير إنجازاتهم العلمية والاجتماعية والإنسانية وبفعل مكتسباتهم الحضارية الرائعة التي تألقت بعقولهم وتجلت بأقلامهم وزخرت بتضحياتهم.. هؤلاء العظماء هم جميعا تجلوا برسالتهم العلمية والمهنية والأخلاقية قمة التاريخ وذروة المجد فصنعوا المعجزات وسطروا التاريخ الإنساني وفي مقدمتهم الراحل الحاضر المفكر المصري والعربي جمال حمدان.

 
أخبار الخليج 14 مايو 2010