المنشور

مغزى الاحتفال الروسي بالانتصار على النازية

مرت قبل أيام قليلة خلت الذكرى إل 65 لانتصار الحلفاء على دول المحور بقيادة ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وهو الانتصار الذي يعد واحدا من أهم الأحداث السياسية في القرن العشرين وتاريخنا العالمي المعاصر والذي غير وجه خريطة أوروبا والعالم السياسية، وترتب على نتائج الحرب قيام النظام العالمي الثنائي القطبية بين القوتين العظميين: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، وهو النظام الذي ساد الساحة الدولية على امتداد ما يقرب من نصف قرن تخلله ما تعرف بالحرب الباردة ما بين تينك الدولتين العظميين التي استمرت حتى أواخر القرن الماضي بانهيار الاتحاد السوفيتي اثر تفكك جمهورياته الاتحادية وسقوط النظام “الاشتراكي” في روسيا وتحوله إلى نظام رأسمالي.

ويعد الاتحاد السوفيتي القوة الرئيسية التي لعبت دورا مهما محوريا في حسم الحرب في فصولها الأخيرة لصالح دول الحلفاء على جبهات الساحة الأوروبية، وهو أكثر هذه الدول أيضا على الإطلاق التي دفعت تضحيات هائلة في سبيل الانتصار على الفاشية الألمانية بقيادة هتلر ودحرها النهائي في عقر دارها ببرلين.

وتقدر التضحيات التي قدمها الاتحاد السوفيتي في الحرب بنحو 40 مليونا بين قتيل وجريح ومعوق ومفقود، هذا بخلاف الخسائر المادية والعمرانية، ولا يقل عدد قتلاه عن 20 مليون إنسان، ففي أواخر ابريل واوائل مايو عام 1945 جرت معارك ضارية حامية الوطيس بين القوات السوفيتية والقوات النازية الألمانية المدافعة عن برلين انتهت باختراق القوات السوفيتية المدينة وتمكنها من رفع راية النصر فوق مبنى الرايخستاغ، وسرعان ما أفضى ذلك لاحقا إلى استسلام المانيا بعد انتحار هتلر، وفي 8 مايو وقع ممثلو القيادة الألمانية وثيقة الاستسلام بلا قيد أو شرط في ضواحي برلين.

وفي سنين الاتحاد السوفيتي السابق كان يجرى الاحتفال بذكرى الانتصار على الفاشية سنويا تحت مسمى “عيد النصر في الحرب الوطنية العظمى” الذي يعد واحدا من أهم واكبر الاحتفالات الضخمة التي تقام في الأعياد والمناسبات الوطنية الكبرى التي تجرى في الساحة الحمراء وربما لا يضاهيها في ذلك سوى الاحتفالات بذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية عام 1917 وعيد العمال العالمي، لكن بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وبخاصة في عهد بوريس يلتسين جرى إسدال الستار على الاحتفال بهذه المناسبة، ولم يعد يحتفل بها سوى قدامى الشيوعيين الصامدين الساخطين من انهيار الاتحاد السوفيتي الذين كونوا حزبهم الشيوعي الخاص المعارض بقيادة جينادي زوجانوف، وذلك من خلال لملمة صفوف بقايا الشيوعيين ممن مازال لديهم استعداد للدفاع عن المثل والأفكار الشيوعية التي آمنوا بها فعلا رغم كل ما حدث من انهيار للنظام الاشتراكي، في حين أضحى معظم قادة الحزب الشيوعي الحاكم السابق هم قادة روسيا الاتحادية الجديدة الرأسمالية، تماما كما حدث في مصر بعد رحيل جمال عبدالناصر ومجيء رفيقه وخلفه أنور السادات من بعده الذي انقلب بزاوية 180 درجة على مبادئ ثورة يوليو وتوجهاتها الاشتراكية، وأجهز على مكتسباتها باسم الانفتاح الاقتصادي واتجه للتحالف مع أمريكا في الخارج ولرأسملة الدولة وبيع القطاع العام في الداخل، وصولا إلى إقامة صلح منفرد مع إسرائيل عام 1978 برعاية الحليف الأمريكي للطرفين، ثم تحول اغلب قيادات وأعضاء الاتحاد الاشتراكي الحاكم سابقا إلى الحزب الوطني الحاكم حاليا (الوسط سابقا).

ومع مجيء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للرئاسة ثم الرئيس الحالي ميدفيدف حدث لروسيا ما حدث لمصر في عهد الرئيس مبارك إذ اجري شيء من رد الاعتبار للتاريخ الوطني الروسي الحديث وللذاكرة الوطنية اللذين شوهما عهد يلتسين، هو ما حدث في مصر المباركية التي أعادت شيئا من رد الاعتبار للعهد الناصري وجرت احتفالات بأعياد الثورة وبمناسبات مكتسباتها بما يليق بتلك الأعياد والمكتسبات ومنها كما ذكرنا احتفالات ذكرى السد العالي، وذكرى العدوان الثلاثي عام 1956، وذكرى الجلاء 1954، وذكرى الوحدة 1958، إذ اعتبر الرئيس مبارك نفسه امتدادا ثالثا للشرعيتين الناصرية والساداتية على السواء.

وفي سياق نهج المراجعة والمصالحة اللتين تجريهما السلطة الحالية في روسيا بزعامة الرئيس ميدفيدف ورئيس الحكومة فلاديمير بوتين مع الصفحات المضيئة من تاريخ روسيا الحديث، بغض النظر عن العهود التي كتبت فيها تلك الصفحات بأحرف من نور، أقيمت بهذه المناسبة أول مرة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي قبل 20 عاما احتفالات ضخمة كبيرة شارك فيها آلاف المحاربين القدامى في الساحة الحمراء، كما شاركت في العرض العسكري المرة الأولى وحدات عسكرية من حلفاء روسيا في الحرب: أمريكا وبريطانيا وفرنسا، بالإضافة إلى بولندا، وحضر ما يقرب من رئيس 30 دولة، كما شارك نحو 200 ألف شخص من الذين حاربوا على جبهات الحرب العالمية الثانية في بلدان مختلفة ضد دول المحور، هذا بالإضافة إلى حضور قادة وشخصيات سياسية عالمية مرموقة، ومنهم حسبما هو مقرر سلفا بصرف النظر عمن حضر ومن لم يحضر ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية والرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب، وأخر رئيس لبولندا الاشتراكية الجنرال ياروز يلسكي. وتضمن الاحتفال عرضا تحت راية النصر ورايات الحرب الأخرى وكذلك عرضا لأحدث الأسلحة الروسية.

لكن سياسيا وفكريا فان ما هو أهم من كل تلك الاحتفالات البهرجية الكرنفالية والاستعراضية التي حشدت واعدت لها السلطة الحالية في موسكو مقدما تحضيرات واسعة النطاق على الصعيدين الرسمي والشعبي استمرت نحو عام أو أكثر، كما تجلت ذروتها خلال يومي الذكرى في الثامن والتاسع من الشهر الجاري.. نقول ما هو أهم من كل تلك الاحتفالات الكبيرة كلها سياسيا وفكريا الجدل السياسي التاريخي المتجدد على الصعيدين: الروسي المحلي والعالمي حول مسؤولية الحرب وعما إذا ينبغي لروسيا الاتحادية الجديدة الاحتفال بها كمناسبة وطنية ام اعتبارها صفحة سوداء من صفحات التاريخ الأسود للنظام الستاليني الشمولي؟
وهذا ما سنتطرق إليه غدا.
 
أخبار الخليج 13 مايو 2010



مغزى الاحتفال الروسي بالانتصار على النازية(2)

 

لماذا أقامت موسكو الاحتفال؟

قبل ان نتطرق الى الجدل السياسي التاريخي المتجدد سواء داخل روسيا بوجه خاص أم في سائر جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وعلى الصعيد العالمي بوجه عام، حول كيف ينبغي اليوم تقييم الموقف السوفيتي من الحرب وسياساته خلالها وما ترتب عليها من نتائج وكيف يمكن النظر اليها ضمن سطور الذاكرة الوطنية الجمعية للتاريخ الوطني الروسي الحديث لعل من المفيد ان نلفت النظر الى ان اهتمام روسيا الاتحادية الرأسمالية الجديدة بهذه المناسبة التاريخية لم يأت اعتباطا بل يأتي في ظل توجهات السلطة الجديدة التي خلفت الرئيس الراحل بوريس يلتسين والمتمثلة في الثنائي الرئيس السابق فلاديمير بوتين والرئيس الحالي ديمتري مدفيديف والتي تحاول استعادة شيء من هيبة ومكانة روسيا كدولة عظمى جبارة خلال الحقبة السوفيتية حيث لحق بها ابلغ الاذى وجرح الكبرياء والكرامة خلال عهدي جورباتشوف، آخر رئيس للاتحاد السوفيتي قبل سقوطه، ويلتسين أول رئيس لروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وذلك على امتداد نحو 15 عاما من حكمهما على التوالي 1986 – 1999، فقد اتسمت سياسات الشريكين الجديدين في الحكم: بوتين ومدفيديف، اللذين تناوبا بالتبادل على رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة منذ نحو عقد خلا بالحد من غلواء العداء المسعور للشيوعية والاتحاد السوفيتي السابق وهي السياسة الرعناء التي اتسم بها سلفهما الرئيس الراحل يلتسين.

وبالتالي فإن اعادة شيء من الاعتبار لمكانة ومكاسب ومنجزات الاتحاد السوفيتي السابق بقيادة روسيا تأتي في سياق المحاولات المبذولة من قبل هذه الاخيرة اليوم لاستعادة هيبتها ومكانتها وبناء قوتها مجددا والظهور بمظهر الدولة العظيمة من خلال التذكير بأمجاد وعظمة بطولاتها الحربية كقوة عسكرية جبارة كما تجلت وامتحنت خلال الحرب العالمية في مواجهة جبروت آلة حرب الدولة النازية الالمانية التي استطاعت ان تجتاح معظم البلدان الاوروبية في السنوات الاولى من اندلاع الحرب او على الادق الاصح من شن الهجوم النازي عام 1939 واشعال المانيا النازية فتيل الحرب العالمية الثانية.

ولولا لم تأت هذه الاحتفالات في سياق هذه التوجهات الجديدة للسلطة الروسية لتذكير الشعب الروسي والعالم بعظمة روسيا ومجدها التاريخي غير البعيد لكان الاولى ان يجرى مثل هذا الاحتفال الكبير خلال عهد يلتسين في التسعينيات، وتحديدا عام 1995 حين اليوبيل الذهبي لعيد النصر.

ولئن كان من المفهوم ألا يقام رسميا احتفال كبير بعيد النصر خلال عهد يلتسين المعروف بعدائه المسعور للحقبة السوفيتية وتقربه للغرب فإنه كان الاجدر ان يقام احتفال كبير بهذا العيد خلال الذكرى الـ 60 التي صادفت عام 2005 ابان عهد الرئيس بوتين (رئيس الوزراء الحالي).

لكن يبدو، كما هو مرجح، مع ازدياد حاجة السلطة الروسية في السنوات القليلة الماضية إلى إثبات وجودها كقوة كبرى مهابة على الساحة الدولية بالتزامن مع ما حققته من نجاحات في الاقتصاد والتصنيع والتسلح واستعادة شيء من نفوذها السياسي الذي خسرته بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.. لكل ذلك فلربما ارادت التعويض عما فاتها من عدم القيام بالتحضير يفترض القيام بها في الذكرى الـ 60 (عام 2005) بعدم تفويت الذكرى الـ 65 لعيد النصر انتظارا لحلول الذكرى السبعين (عام 2015) في حين هي تشعر خلال الظروف السياسية الراهنة محليا ودوليا بأمس الحاجة إلى استثمار وتوظيف الغايات السياسية المبتغاة من اقامة الاحتفالات الكبيرة بالمناسبة على أوسع نطاق على نحو ما أسلفنا.
 
أخبار الخليج 14 مايو 2010