المنشور

لكي لا تسرقنا التفاصيل


بعيداً عن الغرق في الطارئ واليومي العابر، والجري وراء التفاصيل التي هي من طبيعة العمل السياسي المباشر، ودون أدنى استخفاف بهذا النوع من التفاصيل، فإن الحركة الديمقراطية في البحرين كما في سواها من البلدان بحاجة لبذل المزيد من الجهد النظري الذي يحفر في الواقع حفراً بحثياً جاداً وينزع نحو صياغة تصورات جديدة مستمدة من استحقاقات هذا الواقع وبلورة مفاهيم تشكل عوناً للحركة السياسية في عملها.

ويعيب عمل القوى الديمقراطية في البحرين عجزها عن الدفع بهذا النوع من النقاشات والحوارات ولهاثها وراء التفاصيل وأعباء العمل اليومي في ظل نقص الكادر وتكاثر المهام والمسؤوليات، خاصة مع انسحاب الكثير من الكوادر المعروفة في تاريخ التيار الديمقراطي عن المساهمة المباشرة في الحراك السياسي.

وكثيراً ما انصبت طبيعة المناقشات بين قوى وشخصيات التيار الديمقراطي وعلى مدار سنوات طويلة، وليس اليوم فقط، على السياسي والشعاري لا على الفكري والنظري. وخلال السنوات القليلة التي انقضت منذ انطلاقة مشروع الإصلاح لم تنظم ورشة فكرية مشتركة بين أطراف هذه القوى أو حتى داخل كل قوى على حدة للبحث في هذا الجانب، وبصرف النظر عن تقييمنا لطبيعة وحجم التغيرات التي جرت في البلاد، ما زلنا في الغالب الأعم نصر على التعاطي مع الواقع المستجد بالأدوات والأساليب القديمة نفسها.

ثمة عبارة قديمة تنسب لقائد الثورة الروسية مطالع القرن العشرين فلاديمير لينين فحواها إننا لا نحكم على أحد من واقع الصفات أو التسميات التي يخلعها هو على نفسه، إنما من واقع ممارسته السياسية على أرض الواقع.
في كل الظروف لم تكن الإحاطة بكل ما في الواقع من تعقيدات وتضاريس مهمة سهلة، لكن في ظروف اليوم، خاصةً، تحتاج القوى الديمقراطية، إن أرادت أن تكون حداثية وعصرية وديناميكية، أن تفيد من كل انجازات العلم في الحقول المختلفة، خاصة في مجالات الميديا والاتصالات والمعلومات وما تطرحه العولمة من تحديات وأسئلة كبرى جديدة وغير مسبوقة، ولكن هذا لن يتم بالهروب من الاستحقاق الفكري والنظري، برؤية تجلياته في ظروف اليوم العيانية، وبقراءة تعقيدات الواقع المحلي والمحيط الإقليمي.

لعل المطلوب اليوم أكثر من الماضي شحذ العمل الفكري – النظري – التأصيلي للمفاهيم والرؤى، وليس إدارة الظهر للأفكار والغرق في التكتيكات السياسية التي تغيب أو تحجب الفواصل بين التيار الديمقراطي في المجتمع وسواه من تيارات أخرى، مع احترامنا وتقديرنا لهذه التيارات.

وأحد مآزق العمل السياسي في البحرين اليوم، بل لعله أهم مأزق على الإطلاق هو غياب البديل الديمقراطي العصري على صورة برنامج أو مشروع متكامل يضم تحت لوائه مختلف القوى والشخصيات الديمقراطية. وينجم عن العجز في صياغة هذا البرنامج ضروباً من السجالات حول القضايا التفصيلية، وحتى الثانوية، هروباً من الغوص في الواقع بكل تعقيداته وتشعباته، فيما المطلوب من القوى الديمقراطية تجديد وتحديث وتطوير عُدتها الفكرية وأساليب عملها وبرامجها عبر رؤية برنامجية في شؤون الاقتصاد والحياة الاجتماعية والثقافية والبيئية وغيرها.