المنشور

الأفكار والتحولات في العالم الثالث

إن الاضطرابات في العالم الثالث وعدمَ وجودِ تطورٍ حثيثٍ متصاعدٍ من دون حروب وكوارث لا يمكن أن تنفصل عن اضطرابات الأفكار وعدم وجود تقارب بين التيارات.
إن الأفكارَ الرئيسية وهي النزعاتُ العقلانيةُ الدينية والليبراليةُ والماركسيةُ وتنوعاتها، تعبرُ عن هواتٍ كبيرةٍ بين هذه التوجهات، ففي بلدان فقيرة ومتخلفة وأمية، تغلغلتْ أكثرُ الأفكارِ العالمية تطوراً، وهذا يعبرُ من جهة، عن استقلاليةِ الأفكارِ وقدراتِها على الحراكِ الواسعِ من البُنى الاقتصادية والاجتماعية، ويعبرُ من جهةٍ أخرى عن التفاعل البشري المضطربِ وغيرِ المنظمِ وعن اصطدامِ تشكيلات اجتماعية ببعضها بعضا وبشكل قوي في هذا الزمن.
إن الأفكارَ قادرةٌ على التحليقِ وعلى الخيالِ وتبصرِ المسافات المستقبلية، وإعطاء إرشادات مهمة، وكذلك على السير للوراء، أو القيام بقفزات مغامرة أو توجيه الشعوب لمزالق أو جمود.
إن التراتبَ المبينَ أعلاه للأفكارِ وهو ضخامةُ أفكار الأديان المحافظة وبصيص العقلانية الدينية والليبرالية والماركسية، يعبرُ عن بقاءِ القسمِ الأعظم من الوجودِ البشري المادي الإنتاجي في عالمِ الحرفِ القديمة والتشكلاتِ ما قبل الرأسمالية الحداثية، وحين دخل العالمُ الثالثُ حومةَ التاريخ البشري الحديثِ الذي تم بقيادة الغرب الرأسمالي الصناعي، كان سوقاً للاستنزاف واللصوصية وكان دوره هو تغذية المصانع في الغرب.
وهكذا فإن الليبرالية هنا حصلتْ على ضربتين: غربية وشرقية، فالغربُ كرّسَ الدكتاتوريات الحارسة لهذه المناجم والغلال، كما أن طبقاته العليا راحتْ تحاربُ الفكرَ المادي الجدلي والأفكارَ الديمقراطية العميقة، وراحتْ تحافظُ على الأشكال الفكرية المحافظة الدينية في الشرق.
ولهذا رأينا اللحظات الوامضةَ للفكرِ الليبرالي الديمقراطي الشرقي سواء لدى غاندي أو سعد زغلول أو طه حسين أو تولستوي، الذي نبتَ هو كذلك فوق الحاضنة الدينية التقليدية، فكان اقتباسات من الغرب واستيرادات وارتكازات على ماضي الشعوب الشرقية ذي الشبكات الدينية الهائلة.
وحين ظهرتْ الرأسمالياتُ الحكوميةُ على درجاتٍ متفاوتة من النمو وقامت بتغيير البُنى الانتاجية المتخلفة الشرقية، صعّدت كلها الأشكالَ الدكتاتوريةَ من الفكر، حسب طبيعة الظروف الموضوعية ومستويات الوعي المحدودة، والخوارق موجودة ولكن كبلدان استثنائية حصلت على ضرائبها الدموية من هذه الاختراقات.
إن المادية الجدلية الديمقراطية الغربية والليبرالية التنويرية الخلاقة وكذلك الأفكار القومية المحافظة في إيطاليا وألمانيا وفرنسا، كلها تم استيعابها شموليا في الشرق، لقد هضمها الشرقُ المحافظُ الزراعي غيرُ الديمقراطي بآلياتهِ الخاصة، وبمستوياتِ تطوراتهِ المتباينةِ بين البلدان الشرقية، فحول الماديةَ الجدلية إلى مادية شمولية شبه ميكانيكية، ضعيفةِ الجدل والقدرة على التركيب والغنى التاريخي، وحول الاشتراكية والقومية والملكيات الواعدة بالديمقراطية إلى دكتاتوريات، ومن خلال هذه الجوانب الصغيرة المقطوعة والمتحولة إلى أدوات غير مرنة في التحليل واستشراف المستقبل، تغلبت ايديولوجياتُ الأديان والمذاهب، بتنميطاتها الخرافية والغيبية وبخداعِها للجماهير الأمية.
لقد قامت الأفكارُ الماديةُ والليبراليةُ شبهُ الشموليةِ المحولة من الغرب والقومية بإنتاجِ رأسمالياتٍ نهوضية شرقية كبرى مع كل هذه التبسيطات والشعاريات الحربية، وهذا جزءٌ من تداخلِ تاريخِها الديني الشمولي مع الأفكار القادمة التجددية، والعالمُ ينمو عبر حلقاتٍ قافزةٍ حيناً وبطيئة تراكمية حيناً آخر، وهذا هو مستوياتُ وعي الفئاتِ الوسطى الصغيرة الحاملة لهذه الأفكار التجديدية، ومستويات الجماهير العاملة الغارقة في الأمية والخرافات، الجاهلة بمصالحها والتواقة كذلك إلى العدالة وإلى نمو معيشتها ومحاربة أمراضها.
ان هزيمة الرأسماليات الشرقية الشمولية الكبرى هي جزءٌ من تطورِ الرأسماليةِ العالمي، وهو قيام هذه الرأسمالية التي غدت كونيةً، بتجديدِ قواعدِها الإنتاجية وأسواقها، وإذا كانت الرأسماليةُ الغربيةُ هي التي تتمتع بمركزِ القيادة فإن طليعتها المتمثلة في تطوير قوى الإنتاج وتضفيرها بالثورة التقنية المعلوماتية، جعلت قوى الإنتاج الشرقية العتيقة تتفككُ وتعجزُ عن اللحاقِ بهذا المستوى في تصنيع السلع وتسويقها، والسلعُ في النهاية هي التي تقصمُ ظهورَ الأنظمة أو تطورها. هذا جعل الغربَ الرأسمالي الديمقراطي ذا السوق الفاعلة مع الإنتاج ينتصرُ في هذه المرحلة، وبالتالي فإن جماهيرَ هائلةً في الشرق خرجتْ من أسر المادية الميكانيكية السياسية والقوميات العسكرية الشمولية، ودخلتْ حقبةَ السوقِ – الدولةِ شبهِ الشمولية، ولم تجد سوى جذورها الدينية وشظايا من الليبرالية الشعارية أمامها تستغلهما في الحراك السياسي.
رأينا الاستعادات للهندوسية وللبوذية ولأفكارِ الطوائف الإسلامية واليهودية والكاثوليكية والأرثوذكسية، وهذا يمثلُ حراكَ أجهزةٍ حكومية متنفذة وفئات وسطى جديدة قادمة من مناطق متخلفة تكدست في المدن، وظهرتْ لها الرأسمالية كوحش من العصور الحديثة، فاستعانت بخيالاتها ومأثورها الأسطوري وجمل من الأديان وبأجواء الوحدة “الجميلة” التي وفرتها لها الأديانُ خلال التاريخ الطويل، حيث لم تستطع إنتاج طبقات عاملة صناعية قوية ذات نقابات وأحزاب مؤثرة، ولا برجوازيات وطنية ديمقراطية، فقد كانت هذه مع الفكر المادي الجدلي والليبرالية والعقلانية هي ضحايا الأنظمةِ الدكتاتورية النهضوية السابقة.
هذه هي مرحلةُ انتقالٍ بين رأسماليتين عالميتين، خاضتا عمليات صراع باهظة التكاليف، وجذبتا مليارات من البشر لإنتاج غيرِ موحد، ومتضاد، ويعيشُ سلسلةً من العواصف، من أجل الأسواق وتخفيض تكاليف الإنتاج وتقليل العمال، وإزالة الهياكل البيروقراطية المكلفة، وعبر عولمة العمالة والأرباح والثقافة.
إن عمليات تحليل هذه البراكين الاجتماعية بالمعلومات والتحليلات والمجابهات صعبة، فتلجأ الجماهير إلى السائد من الأفكار والعلاقات المحافظة، وإلى ظلال الدول التي لم تزلْ قوية وبمظلات رأسمالية حكومية تواصل الحياة، تبحث الجماهير عن الرزق والستر وتحت مظلات الأديان تحفظها من التقلباتِ “السوقيةِ الشيطانية” لكن بعضها يقود وتضطر قوى كبيرة إلى النضال من أجل التعاون والصراع ضد التعسف بالأجور وبحياة الناس المعيشية، وتكميم العقول، وبنقلهم مثل المواشي عبر القارات، وليس هنا سوى التعاون مجدداً بين التيارات الفكرية وعبر تجديد أدواتها للوصول إلى ما هو مشترك في الكفاح ضد الاستغلال الحاد.

صحيفة اخبار الخليج
7 مايو 2010