المنشور

طواف حول ضريح العم «هوو»


بدا اليوم نصف غائم في هانوي ونحن نستمع إلى شرح الدليل السياحي عن وجهتنا إلى بعض معالم هانوي العاصمة، وكان من ضمنها جولة حول ضريح العم هوشي منه، وتحببا إلى قلب الأطفال فأنهم ينادونه العم «هوو» باعتباره ليس صانع ثورة وحركة تحرر الفيتنام المعاصرة وإنما رجلا من صناع استقلالها الوطني الجديد، حيث يحتفظ زعيمها باحترام شديد في قلب الفيتناميين، حتى أولئك الذين كانوا خدما للاستعمار في الجنوب الفيتنامي، وبالطبع هناك اختلاف ورؤية متعددة بين الجنوبيين والشماليين ونظرتهم للزعيم ولكنهم يلتقون جميعا ليس عند الأخطاء وحسب كما يشاع في البلاد ولكنهم أيضا يتفقون على نزاهة وتواضع وبساطة رجل الثورة ومن ثم بعد ذلك رجل الدولة، الذي عرف كيف يقود ثورة التحرير حتى آخر المطاف. عادة لا يحب الشعب زعيما فاسدا أثناء وبعد الثورة، خاصة وان الشعارات المزيفة هي اكبر من الواقع لدى زعيم متناقض في سلوكه وطبيعة حياته اليومية.

تذكرت وأنا واقف مع طابور طويل من الفيتناميين والسياح من اجل الوصول إلى الضريح الزجاجي المحاط بضوء خافت وعتمة صامتة، والذي ساهم في تشييده الصينيون والسوفيت، فكلاهما حتى مع الاختلاف الأيديولوجي، استطاع هوشي منه ان يوازن معهما مشروعه الوطني التحرري، فقد كان بحاجة الى الدولتين المتناطحتين في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وتحديدا عندما كانت الثورة تنطلق نحو الجنوب من اجل تحريره.

ومثل كل الأمكنة الطقوسية عليك أن تمر من بوابة الكترونية أمنية لا تشعرك بتعقيد الأمور ولكن التصوير كان ممنوعا للجثمان المستلقي في ابديته ككائن محنط أسطوري. هناك تلحظ عينيك الوجوه المختلفة، والأيادي التي بعضها تتضرع على الطريقة البوذية، غير ان امرأة من الجنس الأصفر لم أتمكن من تفحص جنسيتها الآسيوية، وقفت طويلا اكثر من حقها وزمنها المتاح، فكان على الشرطي ان يطلب منها التحرك للأمام. يبدو ان الناس عند الطقوسية والأضرحة يصابون بحالة من الخشوع المطلق. خرجنا بسرعة من داخل الضريح، حيث يستلقي المعمار الجرانيتي في باحة واسعة تقام فيها الاحتفالات والمناسبات الرسمية خاصة يوم الاستقلال الوطني لفيتنام، وهي ساحة تذكرك بالميدان الأحمر في موسكو وبضريح لينين، ولكن الدليل قال لنا فيما بعد، طبعا ضريح لينين أكثر هيبة وأضخم، فقد كان هوشي منه تلميذا الى هذين المعلمين، وهو يومئ لنا بصورة معلقة في البيت الذي سكنه هوشي منه والمجاور للضريح. كانت معلقة صورة لينين وماركس فقط في البيت، وهما بيتان تنقل بينهما هوشي منه، متجاوران، الأول أفخم من الثاني، اذ قضى آخر أيام حياته في مكان صغير للغاية ينتظر لحظاته الأخيرة. ترى لماذا غاب انجلز عن تلك الثلاثية؟

تفاجأ الدليل عندما سألته اين صورة فريدريك انجلز، التي اعتدنا على رؤيتها دائما كثلاثية في المدرسة الثورية الماركسية. ضحك ولم يهتم بالإجابة كشاب مازال يفكر في عالم مختلف، ولكنه يبقى مغايرا عن دليلنا في مدينة سايغون، الذي لم يتوقف حتى عند نقطة صغيرة مهمة في تاريخ الانجاز التحرري للحزب وقيادته وتاريخه. في تلك الغابة الصغيرة خلف الضريح وبين اعمدة البيتين الخشبيين لهوشي منه، كان هناك نفق سري قال لنا عنه الدليل، خلف هذا الجدار هناك نفق سري لا نعرفه نحن حتى الآن، فقد كان يختفي فيه هوشي منه عندما تبدأ غارات الطائرات الامريكية بقذف قنابلها وحميمها، فيتم اشعاره بقطعة حديدية معلقة لكي يتحرك بسرعة نحو المخبأ، وحالما يتوقف القصف وتختفي الغارات يعود” العم هوو” الى مكتبه الصغير وبيته، حيث ظلت موجودة فيه الغرفة الصغيرة بكراسيها لاجتماعات القيادة.
في نهاية الجولة كان علينا ان نداعب عشرات الأطفال الذين جاؤوا مثلنا لرؤية العم هوو وتقديم الاحترام له، ولكنهم ظلوا يستهوون تكرار عادته وهو يقذف قطع الخبز للاسماك في البحيرة الصغيرة المحاذية للبيت، وقد كان يصفق بيديه حينما يقذف بالخبز للاسماك فاستمعنا الى عادة جميلة، تجمع ما بين العلاقة الحميمية للصغار بلعبهم مع السمك وتعلقهم بالقائد.

ظلت مشاهد التربية الثورية موجودة في تلك المناديل الحمراء المعلقة في اعناق الطلائع، غير ان معلمات الحضانة كن يلبسن ما يحلوا لهن بما في ذلك البنطالون الجينز.
زرافات الصغار كن كالزهور بابتسامات نقية، حيث بدت المدارس الخاصة والحكومية معا في ذلك المكان، ولكن العين لا تخطأ طبيعة الفروق الاجتماعية بين الصغار في شكلهن وملابسهن، غير ان الطلائع بدت المناديل الحمراء ملمحهن المميز.

كان من حظنا ان نكون في هانوي المدينة التي تستعد لارتداء حلتها البهية في تاريخ 10 أكتوبر 2010 اذ تحتفل المدينة بألف عام من عيد ميلادها، لذا بدت الحركة والحيوية من اجل تنضيد وتشجير الطرق بالزهور والشعارات والفخر التاريخي للسكان بمدينتهم التي يعتزون بها، حيث كانت هانوي المعاصرة مقرا رئيسيا لدول الهند الصينية ومدرسة قديمة للتعاليم الكونفوشيوسية ولكن الشعار الأهم في المدينة يبقى مكتوبا على جدار الضريح هو عبارة العم «هوو» «لا يوجد أثمن من الاستقلال والحرية».

ظل هناك سر حتى الآن يجهله الكثيرون فقد مات هوشي منه في سنة 1969 بينما ضريحه دشن في 1979، اذ بقي الجثمان الميت مختفيا، وفي سرية تامة خوفا من إصابته من التدمير وويلات الحرب، ولم يكشف النقاب عنه الا بعد ان توقفت نهائيا طبول الحرب واطمأنت فيتنام لقداسة جثمان زعيمها التاريخي.


 
الأيام 20 ابريل 2010