المنشور

التطـــــرف عنـــــــوان المـــــــرحلــــــة ‮!‬


أينما وليت وجهك باتساع الرقعة العربية من مشرقها إلى مغربها، سوف تجد التطرف الديني بمظهراته المختلفة، أو إرهاصاته المنبئة بتفتق قرائح ضحاياه قريباً جداً، ماثلة أمام ناظريك تطالعك بقسمات أوجه مكفهرة.

وما كاد هذا التطرف يخرج من مصادره التنظيرية والأيديولوجية (الدعوية) المختلفة حتى راح يتطور من طور إلى طور وصولاً إلى الذُّرى التي بلغها اليوم باقتحاماته الإقطاع-رأسمالية الفظة والكاسرة لأطرنا وهياكلنا الإدارية والاقتصادية والاجتماعية الهشة أصلاً. حتى غدا التطرف عنواناً لمرحلتنا الراهنة بعد أن تمكن من ‘طرد’ روح التسامح والتواصل مع الآخر واحترامه من منظومة قيمنا وتقاليد ممارستنا حرياتنا العقائدية والاعتقادية سواء المعبرة عن هوياتنا الدينية أو تلك المعبرة عن فضاء هوياتنا الثقافية. حتى أضحى من المؤشرات المقلقة، إن لم نقل بالغة الخطورة، ارتفاع حدة ووتيرة التخندق الطائفي والمذهبي إلى الحد الذي ينذر بتفجر صدامات ونزاعات أهلية كمقدمة لحرائق كبرى سوف تأتي على الأخضر واليابس إذا لم تتم المسارعة الآن – الآن وليس غداً – وبسرعة وهمة فائقتين لاحتواء مواقدها وعزل موقديها من محترفي إشعال الفتن.

في هذه الأجواء المحتقنة والتي يزيد المنخرطون والمتورطون بأعداد غفيرة ومتدافعة من حدة استقطاباتها ويفاقمون بؤر توترها، تتوسل جمهرة العقلاء الذين آثرت غالبيتهم الصمت، مكتفية بابتلاع غصات ومرارات ذلكم التدهور المريع في علاقات القوى المجتمعية وأنساق القيم والمناقبيات التي طالما تسيجت بها وحصَّنتها من تقلبات الدهر ومقاديره، وذلك في ما يشبه الإيماء بالغ الدلالة على ‘استقالتها’ وتبرؤها من ‘حفلة الزار’ الحافلة بكل ‘أصناف’ وأشكال التطرف المتواصلة على مدار الساعة، والتي نصبها المنتفعون منها وراحوا يقامرون ‘ويضاربون’ بها وبمخزون ألاعيبها ‘السحرية’ الفتنوية من دون أن يرف لهم جفن عين أو يطرف لهم ‘هدب’ ضمير.

نقول في هذه الأجواء المحتقنة يتوسل العقلاء في هذه الأمة المبتلية بهذا الداء الخبيث ويتطلعون لأولئك النفر من نظرائهم العقلاء داخل مؤسسات الحكم المقرِّرة للسياسات والتوجهات التنموية الكلية (Macro)، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وخارج مؤسسات الحكم بما هي التنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وقبل هذا وذاك، وعلى نحو خاص، المكونات الدينية من مؤسسات ومراجع ومشايخ باعتبارهم المسؤولين الأوائل، برسم اختيارهم بإرادتهم ووعيهم الخالصين، بأن يتبوءوا المناصب القيادية للاتباع، كل من منطلقاته وتوجهاته الدعوية (الإيديولوجية في التحليل الأخير) – والمسؤولون عن التردي والتدهور المريع في الموقف من الآخر وفي لغة التخاطب المتشنجة معه والتي انتهت بالعصبيات المتفجرة التي تقف خلفها إلى تقسيم العالم إلى دار حرب ودار سلام على طريقة جورج بوش الرئيس الأمريكي الأسبق حين قسم العالم إلى عالمين عالم أخيار وعالم أشرار. ورُوِّجت على ذاك الأساس أيديولوجيا ما يسمى بالجهاد ضد المرتدين. وبالتالي فإن هؤلاء المراجع والمشايخ والمؤسسات والواجهات التي يمثلون، يتحملون مسؤولية العمل على إعادة بوصلة العلاقات المجتمعية البينية والأخرى المجتمعية فوق الوطنية إلى مكانها الذي كانت عليه قبل إطلاق هذه الموجات المتوالية والمتصاعدة من العصبيات المغرقة في تطرفها. بل يتعين عليهم قبل ذلك أن ينهضوا مثالاً في عدم الزج بأنفسهم في دوامة التطرف والغلو وأن يحاذروا من أن يجرفهم التيار إلى مزالقها فيجدون أنفسهم جزءاً من المعضلة سيكون عليهم من الصعب حينها استعادة ذواتهم وضمائرهم، خصوصاً بعد فوات الأوان.. بعد انجلاء الغمة إثر استنفاد وزوال أسبابها.

ونحسب أن أولئك العقلاء المتوجسين خيفة على مستقبل الحياة العربية، ‘يتعشمون’ خيراً، على سبيل المثال، في شيخ الأزهر الجديد الدكتور أحمد الطيب الذي عينه الرئيس المصري حسني مبارك يوم التاسع عشر من مارس الماضي خلفاً لشيخ الأزهر الراحل محمد سيد طنطاوي الذي وافاه الأجل في مكة المكرمة منتصف شهر مارس الماضي، في أن يكرس بعضاً من وقته لإعادة الاعتبار لثقافة الاعتدال والتسامح الديني، حيث عُرف عنه غزارة اطلاعه، معولين في ذلك على ما تفضل به فضيلته لصحيفة الشرق الأوسط بعيد قرار تعيينه ومفاده: ‘بأن من أولوياته تحقيق عالمية الأزهر ونشر المنهج الإسلامي الوسطي المعتدل والحوار الذي يتبناه الأزهر في كل أنحاء العالم، وبأن الأزهر هو الحارس الأمين على وسطية الإسلام واعتداله لأن مناهجه الدراسية تقوم على نشر التسامح ونبذ التعصب والابتعاد عن الغلو والتطرف، وإننا سنسعى لكي يجيد خريج الأزهر اللغات ويفهم صحيح الإسلام بمنهجه المعتدل ويجمع بين التراث والمعاصرة’ (الشرق الأوسط 21 مارس 2010 العدد 11436). … ونعول كذلك على حرص فضيلته في السابق على عدم الزج بنفسه في الجدل المندلع حول عديد القضايا الخلافية، مثلما أنه لم يتورط في موجة الفتاوى المثيرة التي صدرت في الآونة الأخيرة عن عدد من مشايخ الأزهر.
 
الوطن 17 ابريل 2010