المنشور

في مجلس الـدوي


في مجالس المحرق يمكن تلمس ما في مجتمعنا البحريني من حيوية، ومن تفاعل حر مع القضايا المختلفة، بما فيها تلك التي يمكن أن نعدها قضايا ساخنة، لا بل وشائكة، للدرجة التي يُخيل فيها للمرء انه من المتعذر الاقتراب منها، لتكتشف، بعد النقاش والتفاعل بين الآراء، أن النخبة السياسية في البلد هي من قيّد نفسها في أسوار وأحاطت نفسها بحواجز، تحسب ألف حساب قبل محاولة تخطيها.

منذ أيام قليلة طلب مني الأخوة المشرفون على برنامج الندوات والأنشطة في مجلس الدوي، إقامة ندوة في المجلس، الذي هو واحد من مجالس المحرق النابضة بالنشاط، من خلال برنامج أسبوعي متنوع، يتسع لفعاليات متنوعة تتراوح بين الفكري والسياسي والإعلامي وحتى الفني، وفي ذلك، على ما أرى، امتداد للتراث الثقافي لمدينة المحرق التي كانت منذ مطالع القرن العشرين مختبراً للأفكار الجديدة، أفكار النهضة والرقي والتنوير.

اختار المنظمون للندوة موضوعاً مُعقداً، ولكنه في غاية الحيوية، وبأنفسهم اختاروا له العنوان أيضاً: «العلمانية ضرورة تاريخية»، ورغم إدراكي لما يثيره الموضوع من جدل ونقاش، وحتى سوء فهم، لم أتردد في الموافقة على الندوة وموضوعها، بل لعل ذلك كان، أحد بواعث استجابتي الفورية للدعوة الكريمة من المجلس المذكور.

ولهذا علاقة بقناعة راسخة في ذهني بأن علينا التحلي بالجرأة في الإفصاح عن آرائنا ومواقفنا والدفاع عنها، وتفنيد الحجج التي تساق ضدها، خاصةً حين يحاول البعض تصوير محتوى العلمانية على خلاف ما هي عليه حقيقة، فيقرنها، مع سبق الاصرار والتعمد، بالزندقة والتجديف.

مع أن اطلاعاً بسيطاً على تعريفات العلمانية في أي موسوعة أو مصدر رصين، غير منحاز، سيكشف زيف هذا القول، حين لا تعدو العلمانية كونها في الجوهر فصلاً للدين عن الدولة، بعد مخاض تاريخي عسير، رداً على تحول الكهنوت المسيحي في أوروبا في التاريخ الوسيط إلى سلطة تُنكل بالرأي الآخر وتُقيم محاكم التفتيش، وتُجبر العلماء على التخلي قسراً عن قناعاتهم واكتشافاتهم ونظرياتهم العلمية، تحت طائل جرهم إلى المشانق أو المقاصل.

في ظروف مجتمعاتنا العربية الإسلامية، خاصة منها تلك القائمة على تعدد الطوائف والديانات، أو حتى المذاهب في إطار الديانة الواحدة، تغدو العلمانية عاصماً من التمزقات التي تعصف بالمجتمعات، فمجتمعات مثل هذه لا يمكن أن تُدار إلا بجعل الدولة حرة من هيمنة طائفة أو ملة أو مذهب، وأن تكون دولة مدنية، مُوحدة لكافة مكونات المجتمع دون استثناء في إطار وطني جامع.

والعلمانية وفق الفهم الذي هي عليه نشأت ليست ضد حرية المعتقد الديني، ولا هي تتدخل في قناعات المرء ولا في علاقاته بدينه وبربه، لكنها تدعو لتنزيه الديني عن السياسي، وإخضاع السياسة للقانون الوضعي الذي ينظم العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبينه وبين الدولة.

ندوة مجلس الدوي المشار إليها تبرهن أن الحوار العقلاني المثمر، البناء، البعيد عن التشنجات وعن الأحكام المسبقة التي لا تجادل الحجة بالحجة، وبالتي هي أحسن، يمكن أن يُزيل الكثير من اللبس الذي يحيط بالمفاهيم، كمفهوم العلمانية مثلاً، التي كثيرا ما يجري تداوله دون تمعن جدي في محتواه، لترمى هي وأصحابها بما هي ليست عليه أو فيه.