المنشور

محاصصات طائفية وليست ديمقراطية


بعد حصار الغرب طويلا للمعسكر “الاشتراكي” ودفعه إلى الانهيار، ومحاصرة حركات التحرر الوطني بأنظمتها اليسارية العسكرية، تم تحطم الأشكال الشمولية لليسار في العالم النامي، وقد ولد ذلك فوضى عنيفةً في العالم.

لقد أرادتْ الدولُ الرأسماليةُ الغربيةُ توسعَ العمليات الرأسمالية في العالم، ودخول الأسواق المُغلقة، وكان ذلك يجري حتى بآلات عسكرية هائلة أحاطت بالعالم شرقاً وغرباً، وتغلغلتْ كهيئاتِ تجسسٍ وتدخلٍ وتنصيب حكام وهزم ثورات الخ..
وقد نجحت الخطط الغربية في تغيير العالم، فإمكانياتها الهائلة القائمة على استغلال العالم لخمسة قرون سابقة، أتاحتْ لها الدخولَ العاليةَ التي تقدرُ على استنزافِ الخصوم وهزيمة تجاربهم الرأسمالية الوطنية المغلقة أمامها.

ولكن كان لعمليات الانهيار الوطنية في العالم النامي أثمان باهظة كذلك، لقد وجدت شعوب وأديان انها مكتسحة مهانة محطمة أمام هذا التدفق الكوني، العسكري والإعلامي، والنقدي، والجنسي، فكانت الفوضى والحركات الإرهابية والدينية وحروب العصابات وتمزق بلدان عريقة.
فلا المعسكر “الاشتراكي” ولا المعسكر الرأسمالي ساعدا على قيام ديمقراطية نهضوية متدرجة في العالم الثالث، عبر دعم القوى الوسطى والعمالية المنتجة، ونشر سياسات الانفتاح والشفافية.

صارتْ كلُ قارة تنمو حسب إمكانياتها الاجتماعية الموضوعية، من وجود رأسماليات وطنية متجذرة ومن وجود قوى عمالية ذات مؤسسات حزبية ونقابية متجذرة في صفوف الشعب، فبلدان أمريكا الجنوبية ذات التاريخ اليساري الطويل تحولت إلى التجارب الديمقراطية الحقيقية، لمستوى مقاربتها مع التطور الرأسمالي الغربي.
في حين توجهت دول آسيوية كبرى كالصين وروسيا والهند ودول جنوب وشرق آسيا، إلى الملاءمة بين رأسمالياتها الحكومية والقطاعات الخاصة في حكم ثنائي بين رأس المال العام ورأس المال الخاص متفاوت في ديمقراطيته، لكن الدول العربية والإسلامية والافريقية لم تكن لها بُنى رأسمالية خاصة مستقلة كبيرة وقوية، ولم تتشكل علاقات ديمقراطية اجتماعية في حياة المواطنين وفي القوانين وفي الحياة الإعلامية والثقافية عامة.
وبالتالي فإن القوى الرأسمالية الخاصة والقوى العمالية الديمقراطية لم يكن لها أي نفوذ في هذه الدول، ومع هذا فإن “الديمقراطية” الغربية أرادت أن تطبق معاييرها الشكلانية العالمية على هذه الدول التي لا تمتلك أي أسس ديمقراطية حقيقية.
فكأن الديمقراطية بضاعة ليست ذات مضامين اجتماعية عريقة.

ومن هنا فإن القوى ما قبل الحديثة وما قبل الديمقراطية وما قبل الرأسمالية هي التي فازتْ وفرضتْ العودةَ لمقاييس متخلفةٍ من محاصصةٍ طائفية ومن هجومٍ على الحداثة وعلى الحريات، فصارت هذه النسخ من الديمقراطية الشكلانية في الدول العربية والإسلامية والافريقية وسائل للعودة للوراء وتفكيك الدول الوطنية وإقامة أقاليم متمردة وغير هذا من صنوف الأوبئة التي تحملها قوى اجتماعية عاشت طويلاً في كهوف التخلف.

استفادت الحكومات الغربية والحكومات المتعاونة معها من التوسع الاقتصادي واستغلال الثروات بأبخس الأسعار، وبيع السلاح والبضائع الثمينة الأخرى كافة، ونقل أرباح وموارد إلى محافظها، وتحولت “الديمقراطيات” إلى ديكوراتٍ غيرِ قادرةٍ على تغييرِ حياة الجماهير الفقيرة التي انتظرتْ طويلاً أعمال هذه البرلمانات ورفع الأجور وتحسين حياتها المادية، بسبب الأعطال الجوهرية في الدساتير، وغياب إرادة الشعوب المُفككة طائفيا، العاجزة سياسيا، وضحالة خبرتها السياسية وجهل شبابها الذي لم يسبق له أن عرفَ أدوات النضالِ والديمقراطية والثقافة العقلانية.

كانت إراداتُ رجالِ الأعمال والقادة النقابيين والسياسيين اليساريين، متضادة، بسبب هذه المحدودية السياسية وأمية الثقافة الفكرية للجانبين، فتمت هزيمتهم وتنحيتهم من الحياة السياسية الحاكمة، وجلب قوى تجهل حتى فهم العالم بشكل أولي، تجهل مساراته الراهنة، وطبيعة قضاياه، وكيفية إدارة التطور الوطني في كل بلد، وفهم سببياته، وهو الأمرُ الذي تم استغلالهُ من قبل القوى الأخرى، وإدامة تحكمها في الألعاب السياسية الجارية.

قامت القوى اليسارية والبرجوازية في أمريكا اللاتينية بإقامة علاقات مختلفة، ورُوجع تاريخُ اليسار، وروجعَ تاريخُ الأحزابِ الليبرالية الهشة، وتنامتْ علاقاتٌ بين الجانبين، وحُددت النقاطُ الجوهريةُ الجامعة، وتحولتْ إلى سياساتٍ مشتركة ومستقلة كذلك. ولهذا ظهرتْ حكوماتٌ يسارية متعددةٌ تنمي الرأسماليات الوطنية وأحوال العاملين معاً.

وبطبيعة الحال فإن الديكورات الغربية الديمقراطية المجلوبة تُفهم من قبل الغرب نفسه على أساسِ مستوى تطور الشعوب، فهي لا تستطيع أن تصنع هذه الشعوب، ولكن زج شعوب ما قبل التاريح الديمقراطي من دون أسسٍ تحضيريةٍ كافية، ومراحل تمهيدية، لا يؤدي إلا إلى محاصصات طائفية تمزقُ الأنسجةَ الوطنية المهلهلة، وتظلُ فيها الحكوماتُ الشرقيةُ الاستبدادية متحكمةً في الألعاب السياسية الجارية واحتكار الغنائم بينما البرلمانات عاجزة عن تغيير سعر الدجاج، وأسعار الخبز تفلت من أيديها.


أخبار الخليج 11 ابريل 2010