المنشور

مجيد مرهون… ومضيتَ مثل السيف فردا


في صباح الاثنين الماضي، شرعتُ بقراءة سيرة المناضل الإفريقي الأسود نلسون مانديلا «التجربة والحصاد»، وفي المساء كنت على موعدٍ مع حفل تأبين شبيهه المناضل البحريني مجيد مرهون بجمعية المهندسين.

الرجلان متشابهان حتى تظنهما توأمين، فكلّ منهما كان مناضلا من أجل قضية الوطن المكافح ضد العبودية والاستغلال. عاش مقيّدا بالأصفاد، وقضى شبابه مغيّبا وراء القضبان، في جزيرةٍ معزولة، ولذلك لم يخطئ من أسمى مجيد مرهون بمانديلا البحرين. وحين زار مانديلا الإفريقي المنامة، أخبره الزميل محمد فاضل بوجود سجينٍ سياسي قديمٍ يشبهه، ردّ عليه: «أريد أن أراه»… وكيف لك أن تراه؟ ومن رآك في جزيرة «روبن»؟

وُلد مرهون في أحد بيوت حيّ الفقراء المعدمين (العدامة)، في 17 أغسطس 1945، بعد عشرة أيام من إلقاء قنبلتي هيروشيما ونجازاكي اللتين وضعتا النهاية للحرب العالمية الثانية. وتعلّق بالموسيقى مبكرا، وارتبط اسمه بآلة «السكسفون» التي عشقها، ولمّا كان صوتها مرتفعا، كانت والدته يطلب منه تخفيض الصوت لئلا يزعج الجيران، فكان يردّ عليه: “هكذا هي السكسفون”!

في شبابه أحبّ فتاة وأراد أن يخطبها، وتقدّم فعلا لخطبتها، ولكنه راجع نفسه بعدما انخرط في الحركة الوطنية المناهضة للاستعمار البريطاني. وبعدما سُجن طلب من أمه أن تنهي الموضوع مع الفتاة، فهو مقبلٌ على سجنٍ طويلٍ طويل… يشيب فيه الصغير، ويهرم فيه الكبير. إن عليه أن ينسى بعد اليوم أحاديث القلب والرومانسية والزواج، وعلى الفتاة التي اختارها أن تنساه.

العائلة التي تحدّث بلسانها أخوه عبدالرحمن، لم تنس يوم اعتقاله، ولا يوم الحكم عليه بالمؤبد، ولا أيام المقابلات التي يلاقي فيها أهالي السجناء الإذلال المتعمد على أيدي الشرطة الغلاظ والحرس الأفظاظ. ولن تنسى يوم وفاة أخته التي كانت تحلم كغيرها من أخوات السجناء السياسيين بأن تراه عريسا وترى أطفاله. ويشاء القدر أن يخرج ليتزوّج ويخلّف ابنا وحيدا اسماه رضا، ليظل ذكرى تشم فيه العائلة رائحة الراحل العزيز.

في السجن قضى السنوات الأولى مقيّد الرجلين بالسلاسل الثقيلة، لأن رجل المخابرات القوي إيان هندرسون صبّ عليه جام غضبه انتقاما من عمليته التي نفذّها ضد رجال الحامية البريطانية. وحين نقل إلى جزيرة جِدا في الشمال الغربي من الجزيرة الأم، شعر بأنها جزيرة موحشة ومخيفة. كان عليه أن يقضي الشطر الأكبر من العقوبة في هذه الجزيرة المعزولة قبل أن يستقر أخيرا في سجن جو في أقصى الجنوب.

السجن حوّله مرهون إلى مدرسةٍ، حسب الإمكانات المتواضعة، عاد لهوايته القديمة يسقيها، درّس نفسه بنفسه الموسيقى، فالسجن ليس آخر المطاف. السجن لم يكن إصلاحية ولا تقويما، وإنّما محرقةٌ لإيقاع أقسى أنواع العقوبة والأذى بالمعارضين، لتحطيم إرادة البشر وتحويلهم إلى خردةٍ بشريةٍ محطّمة. وفي السجن ألّف الكثير من المقطوعات الموسيقية التي لاقت اعترافا دوليا، خصوصا في دول الكتلة الاشتراكية، وهي أهم ما ترك الرجل وراءه من ميراث، فقد عاش فقيرا ومضى فقيرا. ورغم ما ناله من تكريمٍ في عدة مناسبات، شعبيا ورسميا، إلا انه مضى نظيفا، شامخا، مرفوع الرأس، لم يلوّث يديه بعطايا أو فتات، وتلك نعمةٌ وجاهٌ ومنزلةٌ لا يدركها الكثيرون.

على هامش التأبين الشاعري الحزين، جاء المئات من البحرينيين، من مناطق وجمعيات وتيارات فكرية مختلفة، تقديرا واحتراما لهذه الرمز وما ناله من عذابات. وكان يستقبلهم عند مدخل جمعية المهندسين مجسم للزنزانة الانفرادية التي قضى فيها شطرا من عمره. كانت الزنزانة هذه المرة خالية، فقد رحل صاحبها، وبقي «السكسفون» نائما على فراشه الملقى على الأرض الترابية.


عشتَ وحيدا غريبا… ومضيتَ مثل السيف فردا.

 

الوسط  الخميس 08 أبريل 2010م