المنشور

ما لا يقــــــال!

ثمة مساحة كبيرة للأشياء التي لا تقال، ويتحاشى الناس، مُكرهين أو مختارين، مقاربتها في خطابهم العلني. ولربما جاز القول، دون كبير خشية من الوقوع في المبالغة، إن مساحة المسكوت عنه أكبر من مساحة الأشياء المُفصح عنها، الأشياء التي تقال جهراً.
وهي إن لم تكن أكبر فإنها في كل الأحوال أهم من الأشياء التي نقولها. وأغرب ما في أمر الأشياء المسكوت عنها أنها معروفة، وان الناس تفكر فيها وتُدركها، ولكن ثمة دائما ما يمنع أو يحول دون الاقتراب منها.
ولا يتصل الأمر بالشأن العام فقط، كما قد يتبادر إلى الذهن مباشرة، وإنما أيضا إلى الأشياء الخاصة بنا أو بمن هم في المحيط حولنا.
يلتقي عالم النفس والروائي في أمر مهم، هو ان كليهما يتحركان في دائرة المسكوت عنه، فكلاهما يقول ما لا يقال عادة.
عالم النفس حين يشخص مريضه يتقصى تلك العوامل غير المرئية في حياة المريض، ليتتبع جذور ما يعانيه من أزمة، وهو بالنتيجة يلفت نظر مريضه إلى ما يتحاشى هذا الأخير الاعتراف به أو ما يتركه من اثر في النفس.
والروائي يقوم بعمل مشابه حين يتوغل في دواخل شخوصه، حين يجعلهم يعترفون أمام ذواتهم بما يخجلون منه أو يخافون من قوله، لأن عدد وحجم التابوهات التي تعيق التصريح كافٍ لأن يجعلهم كذلك.
يغدو الأدب بهذا المعنى حُراً من هذه القيود لأنه يلج تحديداً إلى تلك المناطق التي يجري تحاشيها في الحياة العامة، وبالمناسبة كلما شعر الأديب باتساع دائرة الحرية التي يتحرك فيها كلما تخلص من الممنوعات ومن العقد، وقارب الزوايا التي تبدو مغلقة أو سرية، وزادت إمكانية أن يحقق لأدبه الصدق والخلود.
لكن حين ننتقل إلى الحقل العام يبدو الأمر أشد وقعاً وأثراًً وأهمية، حين يشمل المسكوت عنه تلك الأشياء التي يجري التواطؤ الضمني بين الناس، أو بين من يعنيهم الأمر على تجاهلها، مع أن هذا التجاهل لا يعني غيابها، فهي موجودة موضوعيا بصرف النظر عن رغباتنا، وهي تقوم بتأثيرها وتفعل فعلها، حتى تحين لحظة تظهر فيها النتائج واضحة على شكل فجاءة أو مباغتة.
السكوت عن هذه الأشياء يجر الكوارث كما تدل على ذلك تجارب الدنيا كلها، القريب منها زماناً ومكاناً وكذلك البعيد، بمعنى أن عدم التحدث عن الأمور علانيةً، هو في الغالب الأعم اضطراري، قسري، لا تحدده الإرادة الحرة للناس، فالناس في الغالب يضيقون ذرعاً بالصمت، وهم أميل للقول منهم الى التكتم، ولكنهم قد يُحملون حملاً على الصمت، فيما الأشياء تفعل فعلها في القاع، تختمر وتتفاعل، ويبقى أمر ظهور مفاعليها مرهوناً بالغيب، ولكنه آتٍ لا ريب فيه.
من يريد معرفة الحقيقة عليه أن يفتش عن عناصرها ليس في الأشياء التي نعرفها، ليس في الأشياء التي تقال، وإنما في الأشياء التي لم تقل، في الأشياء المسكوت عنها.
 
صحيفة الايام
6 ابريل 2010