المنشور

نوّابنا.. والاحتذاء بالنموذج التركي الإسلامي

في الخامس عشر من شهر فبراير الماضي، أي قبل فترة قصيرة من اقرار مجلس النواب بالإجماع قراره المثير للجدل بحظر المشروبات الروحية في البحرين برمتها جملة وتفصيلاً، استيراداً وبيعاً، أدلى صاحب السمو الملكي ولي العهد بتصريح غير عادي لافت للنظر لدى استقباله رئيس البرلمان التركي شاهين محمد علي عبر فيه له عن اعجابه بالنموذج التركي الاسلامي، ومما قاله حرفيا سموه ان تركيا تعد “تعبيرا حقيقيا عن دولة الانفتاح والاعتدال واهم نموذج في منطقتنا للدفاع عن الاسلام الحقيقي …”.
دلالة هذا التصريح ذي الرؤية الواقعية الاسلامية المعتدلة البعيدة النظر لسمو ولي العهد لا تنطوي هنا على كونها أتت بالمصادفة قبيل فترة وجيزة من قرار مجلس النواب الآنف الذكر فحسب، بل لكون البحرين العربية المسلمة عرفت على امتداد عقود من تاريخنا المعاصر منذ فجر نهضتها في مطلع ثلاثينيات القرن الماضي بأنها ليست منارة اشعاع حضاري في المنطقة فحسب، بل تمثل وجه الانفتاح والواقعية والاعتدال في نموذجها الاسلامي. وكانت النموذج الذي يحتذى به في خليجنا العربي ويضرب به المثل بين شقيقاتها الدول الخليجية، ولم يقم اقتصادها ويزدهر وينعكس على نهضتها التعليمية والعمرانية الا على دعائم ومقومات ذلك الانفتاح الذي لولاه لما كانت البحرين هي البحرين التي نعرفها نحن أحق المعرفة، ولما كانت هذه النقطة الصغيرة التي لا تكاد ترى على خريطة العالم السياسية يعرفها العالم أجمع بصيتها السياسي وبعظمة مواردها البشرية رغم تواضع مواردها وثرواتها الطبيعية.
ومن أسف ان ذلك النموذج التركي الاسلامي الجديد بالرغم من انه مازال يثير اعجاب العرب والمسلمين كافة على اختلاف تياراتهم ومشاربهم الفكرية والدينية فإن لا أحد منهم وعلى الاخص التيارات السياسية الاسلامية قد حاول الاستفادة والاتعاظ من نهجه الواقعي العقلاني الوسطي الذي بفضله وصل إلى السلطة حزب العدالة والتنمية في دولة اسلامية تعد أكثر الدول الاسلامية تمسكاً بنظامها العلماني الذي لم يمنع من وصول حزب اسلامي الى السلطة، هذا بالرغم من اصرار معظم تيارات ورموز الاسلام السياسي على نعت العلمانية بالكفر والالحاد ومحاربة الدين إن جهلاً بالمصطلح وإن تمادياً في تحريفه وتجهيل أنصارهم والناس بمفهومه ومحتواه الحقيقي لا المسطح الظاهري، كما يحلو لهم.
عرفت تركيا الانفتاح الاقتصادي المستنير على العالم وعدم الانغلاق والتقوقع الديني المتزمت منذ سقوط “الرجل المريض” دولة الخلافة العثمانية عام 1924م وقيام نظام اتاتورك العلماني بغض النظر عن عدم تلازم الانفتاح الاقتصادي مع الانفتاح السياسي الديمقراطي الذي سار ببطء ومر بمنعطفات صعبة فماذا جرى للإسلام والمسلمين في تركيا؟ هل قضى ذلك النموذج التركي من الانفتاح والتعددية الثقافية وعدم مصادرة الحريات الشخصية الضامنة لتلك التعدديات الثقافية في المجتمع التركي على الاسلام والمسلمين؟
ثم هل حزب العدالة لو كان يحمل برنامجا انتخابيا متطرفا ينص على حظر المشروبات الروحية فور وصوله إلى السلطة ومنع السفور وفرض الحجاب في الحال سينجح حقا ويصل الى السلطة؟ أليس ذلك يعد ضرباً من حرق المراحل؟ ثم ماذا سيكون يا ترى حال اقتصاد تركي قام وبنيت دعائمه على الاقتصاد الحر المنفتح طوال 85 عاماً وأرسيت كل تقاليده واعرافه في كل المشاريع والاستثمارات على ذينك الانفتاح والمرونة ثم فجأة وبقدرة قادر يقرر “الاسلاميون” سن ذلك “الحظر” الذي سنه نواب الوحدة الوطنية الاسلامية في مجلس النواب البحريني؟ أوليس اقتصادنا الاقل قوة ومناعة من الاقتصاد التركي قد بني على اسس مشابهة من التقاليد الاقتصادية والاستثمارية في تركيا والقائمة على المرونة والانفتاح على العالم؟
85 عاماً من التجربة الاقتصادية التركية الحديثة الحرة القائمة على نهج الواقعية والاعتدال والانفتاح التي تتشابك وتتكامل كل مشاريعها التجارية والاقتصادية والصناعية وفق ذلك النهج ذاته ولاسيما في قطاع السياحة وعلى نحو يصعب معه ان يتأثر سلباً قطاع من تلك القطاعات الاقتصادية بتغييب ذلك النهج من دون ان يترك تأثيراته المدمرة على سائر القطاعات الاخرى، فالاقتصاد كجسم الانسان تماماً اذا اشتكى منه عضو بالحمى تداعى له سائر الاعضاء، واقتصادنا يتشابه كثيراً في عراقة تجربته المديدة مع الاقتصاد التركي.
ومع ان اسلاميينا – حفظهم الله – ظلوا على امتداد ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن واقعيين في الاناة والتؤدة في عدم الاحتجاج الصاخب او تدبيج العرائض لحظر المشروبات الروحية فوراً، ثم امتازوا بالصبر والتريث طوال 8 سنوات من استئناف الحياة البرلمانية دونما ان يطرح هذا الحظر على رأس أولوياتهم لكنهم فجأة قرروه، وبعد أن اختلفوا في كل شيء وخونوا بعضهم بعضاً في كل القضايا، أبوا ان يتركوا مقاعدهم البرلمانية من دون ان يسجلوا للتاريخ على الأقل موقفا وطنيا موحدا ضد الحكومة وضد اقتصاد بلدهم الوطني لإبراء ذمتهم أمام الشعب “الغلبان” الذي انتخبهم، ولا يهم بعدئذ اذا ما تركوا كل قضاياه المصيرية السياسية والاقتصادية والمعيشية والاجتماعية الآنية الاكثر اولوية وإلحاحاً في مهب الريح وراء ظهورهم.

صحيفة اخبار الخليج
4 ابريل 2010