المنشور

هـــــل نلــــــوم أبـــــو مـــــازن؟

بعد طول معاناة جاءه الحل من صوب دوائر المطبخ السياسي‮ ‬للجامعة العربية ومن لجنة المتابعة العربية تحديداً،‮ ‬فقد وجد رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس نفسه فجأة في‮ ‬مأزق سياسي‮ ‬لا‮ ‬يحسد عليه،‮ ‬وذلك بعد أن انقلب موقف الإدارة الأمريكية رأساً‮ ‬على عقب‮.. ‬من الضغط على إسرائيل بتجميد الاستيطان توطئة لإعادة إطلاق مفاوضات السلام بين الجانبين الفلسطيني‮ ‬والإسرائيلي‮ ‬إلى تحويل الضغط كلياً‮ ‬باتجاه السلطة الفلسطينية ورئيسها أبو مازن لإجبارهما على استئناف المفاوضات مع إسرائيل دون الحاجة لتجميد الاستيطان حتى ولو لعام واحد،‮ ‬كما حاول ذلك عبثاً‮ ‬المبعوث الأمريكي‮ ‬للشرق الأوسط جورج ميتشيل‮.‬
فقد خضع الرئيس أبو مازن طوال الشهور الثلاثة الماضية لضغوط أمريكية وأوروبية‮ (‬وإقليمية أيضاً‮) ‬من أجل التخلي‮ ‬عن شرط وقف أعمال الاستيطان الإسرائيلية لاستئناف المفاوضات مع حكومة نتنياهو العنصرية بعد أن تحايل نتنياهو ومؤيدو إسرائيل في‮ ‬الإدارة والكونجرس الأمريكيين على استحقاق وقف الاستيطان والإعلان الشكلي‮ ‬عن تجميد الاستيطان لمدة تسعة أشهر‮.‬
فكانت تخريجة لجنة المتابعة في‮ ‬الجامعة العربية التي‮ ‬قضت بالموافقة على استئناف المفاوضات‮ ‬غير المباشرة مع إسرائيل لمدة محددة‮ (‬4‮ ‬أشهر‮) ‬يتم خلالها وضع مصداقية إسرائيل على المحك فيما‮ ‬يتعلق بالتسليم بحق الشعب الفلسطيني‮ ‬في‮ ‬إقامة دولته المستقلة كانت بمثابة مخرج فيه حفظ لبعض ماء وجه الرئيس أبو مازن،‮ ‬وذلك لأنه،‮ ‬أي‮ ‬المخرج،‮ ‬لا‮ ‬يُعطي‮ ‬نتنياهو شيكاً‮ ‬على بياض بالنسبة لاستئناف المفاوضات التي‮ ‬يحتاجها الأخير بشدة،‮ ‬أو بالأحرى‮ ‬يحتاج إلى شكلانيتها،‮ ‬لتفادي‮ ‬وصمه بعدو السلام،‮ ‬المعطل لمسيرتها والمتسبب في‮ ‬تأجيج الصراع في‮ ‬منطقة لا تنقصها صواعق التفجير،‮ ‬وإنما حدد لها إطار زمني‮ ‬محدد هو أربعة أشهر‮. ‬وهو،‮ ‬أي‮ ‬أبو مازن،‮ ‬بموافقته‮ (‬المحددة زمنياً‮) ‬على استئناف المفاوضات مع إسرائيل،‮ ‬قد وضع حداً‮ ‬للضغوط الأمريكية وغير الأمريكية الواقعة عليه‮.‬
ما من شك أن كثيرين في‮ ‬عالمنا العربي‮ ‬كانوا حانقين وغاضبين على هذا الموقف الذي‮ ‬اتخذه أبو مازن،‮ ‬وزاد حنقهم أكثر بعدما صرح أبو مازن‮ ‘‬أن على إسرائيل أن لا تضيع الفرصة المتاحة أمامها لإحلال السلام‮’ ‬وذلك في‮ ‬معرض تعليقه المهيَّض الجناح على قرار حكومة نتنياهو التوسع في‮ ‬بناء الوحدات الاستيطانية في‮ ‬الضفة الغربية الذي‮ ‬صدر في‮ ‬أعقاب القرار الفلسطيني‮ ‬والعربي‮ ‬باستئناف المفاوضات‮ ‬غير المباشرة مع إسرائيل،‮ ‬والإعلان في‮ ‬واشنطن عن إرسال جورج ميتشيل من جديد لاستئناف وساطته بين الفلسطينيين والإسرائيليين،‮ ‬والإعلان من بعد عن بناء‮ ‬1600‮ ‬وحدة سكنية استيطانية في‮ ‬القدس الشرقية‮.‬
إنما هل من الإنصاف أن‮ ‬يُلام أبو مازن على هذه المعالجات السياسية والدبلوماسية‮ ‘‬الناعمة‮’ ‬للغطرسات الإسرائيلية وتبجحات السياسة الإسرائيلية الاستيطانية التوسعية؟
نعتقد أن الموضوعية تقتضي‮ ‬منا النظر لموقف السلطة الوطنية الفلسطينية ورئيسها من داخل واقع الحال السياسي‮ ‬والاقتصادي‮ ‬والاجتماعي‮ ‬البائس الذي‮ ‬تعايشه السلطة الوطنية الفلسطينية في‮ ‬الوقت الراهن وليس من خارج نطاق هذا الواقع‮. ‬السلطة اليوم ورئيسها في‮ ‬وضع لا‮ ‬يُحسدان عليه بعد أن نفض‮ ‘‬الجميع‮’ ‬يديه ولم‮ ‬يعد‮ ‬يكترث بتحمل مسؤولياته تجاه القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني،‮ ‬بما في‮ ‬ذلك عدم الوفاء حتى بالالتزامات العربية والأوروبية والدولية المتخذة في‮ ‬عديد القمم والمؤتمرات العربية والإسلامية والدولية تجاه السلطة لاسيما المساعدات المالية والاقتصادية‮.‬
الولايات المتحدة نفسها ورئيسها باراك أوباما‮ ‬يتصرفان كالأرانب المذعورة مع إسرائيل ويحاذران إغضابها بل والتأكد من عدم إساءتها الفهم في‮ ‬الموقف الأمريكي،‮ ‬رغم الإهانة المذلة التي‮ ‬ألحقتها إسرائيل بالرجل الثاني‮ ‬في‮ ‬الدولة الأمريكية وهو نائب الرئيس جو بايدن أثناء وجوده في‮ ‬تل أبيب حيث تعمد الإسرائيليون الإعلان عن بناء‮ ‬1600‮ ‬وحدة استيطانية جديدة في‮ ‬القدس الشرقية أثناء وجوده في‮ ‬بلادهم‮.‬
بان كي‮ ‬مون أمين عام الأمم المتحدة صمت طويلاً‮ ‬على السرطان الاستيطاني‮ ‬المتمدد بوحشية هذه الأيام،‮ ‬ولم‮ ‬يعلن موقفه المستنكر لهذه السياسة الاستيطانية التوسعية الإسرائيلية إلا بعد أن قرأ الضوء الأخضر بهذا الصدد من واشنطن وعدد من العواصم الأوروبية الكبرى‮!‬
السلطة الوطنية الفلسطينية ليست هي‮ ‬منظمة التحرير الفلسطينية التي‮ ‬كانت رقماً‮ ‬صعباً‮ ‬في‮ ‬معادلات الشرق الأوسط،‮ ‬وأبو مازن ليس هو أبو عمار رحمة الله عليه‮. ‬فليس لدى أبو مازن عملياً‮ ‬أية ورقة‮ ‬يعتد بها في‮ ‬صراعه مع دولة تمتلك أدوات قوة وأوراق ضغط تستطيع إشهارها حتى في‮ ‬وجه القوى العظمى في‮ ‬العالم‮.‬
بعض السلطة الفلسطينية اليوم‮ ‬غارق في‮ ‬وحل الفساد الذي‮ ‬تمكَّن من مفاصل حركة فتح،‮ ‬وبعضها الآخر‮ ‬غارق في‮ ‬صراعات تتجاذبها المصالح والتكالب على المناصب القيادية والامتيازات التعهيدية‮ (‬الاستثمارية‮).‬
وعلى ذلك فإنه عوضاً‮ ‬عن لوم أبي‮ ‬مازن والسخط عليه وعلى مواقفه المستكينة،‮ ‬فإن الحري‮ ‬بالحكومات العربية التي‮ ‬بدأت في‮ ‬واقع الأمر ترسل إشارات موحية بتخليها عن القضية الفلسطينية،‮ ‬والعمل خفية على إقامة‮ ‘‬البنى التحتية‮’ ‬للعلاقات المستقبلية مع إسرائيل‮ (‬من تسهيل المبادلات السلعية والاتصالات اللاسلكية وإنشاء قنوات لإجراء المشاورات السياسية وتبادل المعلومات الأمنية والاقتصادية‮) ‬فإن الحري‮ ‬بها أن تمد‮ ‬يد العون والمؤازرة للسلطة الوطنية الفلسطينية وتعيد تأهيلها وتمكينها من مواجهة الاستعمار الصهيوني‮ ‬المتمادي‮ ‬في‮ ‬إجراءاته ومبادراته العدوانية،‮ ‬التوسعية والقمعية.حتى لو لم ترغب هذه الحكومات،‮ ‬التي‮ ‬هي‮ ‬مصدر الاستكانة الأصلي،‮ ‬في‮ ‬الاستخدام‮ ‘‬الناعم‮’ ‬لبعض أوراق ضغطها التفاوضية،‮ ‬فإن بإمكانها على الأقل الإيعاز والتشجيع‮ ‬غير المباشر لمجتمعها المدني‮ ‬للانضمام إلى الحملة الشعبية العالمية الرامية لفرض حظر على التعامل مع الجامعات والمنتجات الإسرائيلية في‮ ‬إعادة لإنتاج الحملة العالمية الناجحة لعزل نظام الفصل العنصري‮ ‬في‮ ‬جنوب أفريقيا‮. ‬حتى أنه من فرط تأثير الحملة،‮ ‬فإن إسرائيل بادرت لتشكيل طاقم أكاديمي‮ ‬متخصص للرد على هذه الحملة ومحاولة التشويش على نشاطاتها المتسعة‮.‬
ففي‮ ‬ذلك أضعف الإيمان‮.
 
صحيفة الوطن
27 مارس 2010