المنشور

مذهبية سياسية تجميدية


إذا كانت المذاهب الإمامية عاشتْ في حياةِ وصراعِ الحصار فإن المذاهبَ السنيةَ بحثتْ عن التطورِ المحافظ، عن التطورِ البطيءِ المُـقننِ في ظلِ سيطرةِ الماضي القوية، وقد كانت قد خرجتْ من الجزيرة العربية في بدءِ التاريخ الإسلامي عَبر المالكيةِ النصوصية الاجتهادية، وازدهرتْ عبر الحنفيةِ العقلانية المتجهةِ للتجديدِ في ظلِ نموِ المدن العربية المزدهرة بالعلاقاتِ الرأسمالية في ذلك الحين. وإذا كانت الشافعيةُ قد مالتْ لشيءٍ من المحافظة في ظلِ الاجتهاد فإن الحنبليةَ مثلتْ تراجعاً على صعيدِ الاجتهاد، وبدء تكوين مذهبية الانغلاق والتكوين الجوهري المنقطع عن إنجازات البشرية.

زمنيةُ ظهورِ ونمو الحنبلية كان زمنية الصراع (القومي) العربي – الفارسي، وقد نضبتْ فيه ينابيعُ العقلانية في وعي الدين خاصة، وتضخّمت القوى البدويةُ في المدن وبدأت الشعوبُ البدويةُ بالحراك والهجوم على المناطقِ الحضرية، وجاءت الغزواتُ الأجنبية لتعزز هذا المسار الانهياري، فتداخلت الحنبليةُ بالجهادية السلفية الاقتلاعية لكل شيءٍ مغاير، وحنطت العروبةَ في أشكالٍ لا في حياة وحراك فكري جهادي، ووجدت في الجزيرة العربية البيئة المناسبة لازدهارها!
هو الوعي الفقيرُ في زمنِ الفقر ولاستغلالِ الفقراء!

النصوصيةُ، ووقفُ التفاسير العقلية، والعودةُ لهيمنةٍ ذكورية حادة، وطرد كل ما هو مؤثر حضاري من حياة الأسرة والقبيلة والمدينة، والتشدد في أحكام الحدود، والفصلُ السلطاني الحريمي بين الرجال والنساء، والحفاظُ على النصوصِ القديمة الحَرفية المُبسطة للأسلام وكأنها الحرز الحريز، اتخذ ذلك كشكلٍ من أشكال الهيمنةِ السياسيةِ المباشرة والقاسية المدعوم بالقوةِ العسكرية العامية الفظة!

فجاءتْ الجزيرةُ العربية وخاصة قلبها المملكة، كقالبٍ حديدي متراجعٍ كلياً عن مرونةِ المذاهب السنية.
وجاء النهبُ الأمريكي للثروة العربية الوفيرة متداخلاً مع الحفاظ على هذه النصوصية وعلى هذا التخلف الأسطوري، فحدث تناقضٌ هائلٌ بين قمةِ الأمبرياليةِ العالمية، حيث أحدث المناهج في القراءات والعلوم وبين قعرِ القفةِ في الكرة الأرضية، حيث أشد حالات التخلف والبؤس الفكري وجمود العلاقات البشرية!
هناك النساء على شواطئ العراة وهنا مخبآت في الغرف الخلفية فقدن كل حق!

المجلات تُقطع من مقالاتِها ومن صورِها، والكتبُ ممنوعة، والأفلام مقصوصة، والمحرمات لا عد لها، والحلال مراقب، والكثيرون من البشر ممنوعون من الدخول، فقط لأن فريقا من البشر يغرفُ بحيرات النفط ويملأ خزائنه من أرباحها الهائلة!

حدث تمزق للقراءة النصوصية السلفية المحافظة وللهيمنة الإمبريالية الأمريكية على السواء حين جرى الحراكُ السياسي في آسيا بدءاً من أفغانستان، فقد عبّرت ثورةُ أفغانستان عن التمرد الفوضوي لمثقفي المسلمين النخبويين المستوردين لكتالوجات الانقلابات الخارجية، بسببٍ من فظاظةِ الإقطاع الديني الذي تشبثَ برقابِ المسلمين وخنقَ أنفاسهم، فقام الإقطاعُ السياسي والأمبريالية بحشدِ جميع الطاقات لاستمرار احتجاز الشعب. وبالتالي فقد أعطوا هذه الحركات المحافظة كل الأدواتِ الحديثةِ من تنظيماتٍ وتمويل وأسلحة لكي تتحركَ وتدمر آخر ما بقي من أنفاس الحداثة المخنوقة!

بدا لهذه الحركات (الجهادية) أنها تماثل السلف المغير للتاريخ، خاصة أن مفردات(الاشتراكية) و(الحداثة) الغربية غدت مثل الشمع الذي يذوبُ في وهجِ الرصاص، وأنها قادرة على نسخ الزمن الماضي، وكأن عقارب الساعة الإسلامية يجب أن تعود أربعة عشر قرنا للوراء، فوق بحار من الدماء!

لكن القوى التي حضنت هذه الجراثيم الاجتماعية في حضانة الصحراء المغلقة، دفعت ثمناً باهظاً لهذا الاحتضان، لكن الثمن لم يُدفع بالكامل، وما زالت المسألةُ بعيدةً كثيراً عن التسوية، وتتلهف لضحايا كثيرين، وهو صراعٌ عميقٌ بين محافظة انتحارية وبين تحديثية هشة، بين علاقاتٍ اجتماعية استبدادية ذكورية سياسية راسخة في الجبال الاجتماعية، وبين قراءاتٍ ضحلةٍ للحداثة وهشاشةٍ ليبرالية وشكلانيةٍ استيرادية وبرجزة نفعية انانية!

الطريق طويل والصحراء مليئة بالألغاز والتحديات.

أخبار الخليج 26 مارس 2010