المنشور

صراع الدولتين المدنية والدينية في إيران (2 – 2)


كانت السلطةُ الدينيةُ تشعرُ بهذا الزحف الواسع من قبل الدولة، وبتقليصِ نفوذِها، وكان آية الله العظمى حسين البروجردي أعلى مرجع شيعي في العالم رجلُ دينٍ هادئ ومنفتح، وقد بدأ نشاطه منذ الأربعينيات وتوفي سنة 1961، مركزاً مثل الأئمة السابقين والعديد من آيات الله العظمى، في البحوث والعمل الاجتماعي الديني العميق، والانفصال عن السياسة المباشرة، فقام بالعديد من الأنشطة الكبيرة لدعم تطور المذهب الجعفري وعلاقته الأخوية بالمذاهبِ السنية كذلك، وقام بـتأسيس إبتدائيات وثانويات جديدة تحت اشراف مديرين متدينين، والمساعدة على بناء مساجد وحوزات علمية في أنحاء إيران كافة، وحث طلبة العلوم الدينية على التخصص في باقي العلوم الإسلامية بدل اختلاق مسائل فقهية خيالية إضافة لجهود دينية وتعليمية واجتماعية كثيرة، (المستنيرون الإيرانيون والغرب، ص 135).

في أوائل الأربعينيات لم يكن التضاد ملموساً بشكلٍ كبيرٍ بين المؤسستين السياسية والدينية، ولكن بعد وفاة البروجردي بدأ التحسسُ واضحاً من طبيعةِ السلطة السياسة ومشروعاتها المتعالية على الشعب والعلاقة مع النفوذ الغربي الاستعماري، وأحدثت وفاته حراكاً متعدداً بين رجال الدين، وجمعتْ نخبةً من رجال الدين والقوى الفكرية المؤدية لهم، مثل مطهري وبهشتي وبازركان وغيرهم، وكان هؤلاء خاصة من مؤيدي التسييس المباشر للدين، وطرحوا ضرورة التصدي (للسلطة ولأندادهم من العلمانيين)، السابق. وقد انتصر هذا التيار بشكل عام، وهو الذي استمر في السلطة ومثل مستواها الفكري المحدود في الجانبين الفقهي والفكري، وإن بقي قسمٌ كبيرٌ من رجال الدين منعزلا عن هذا التسييس المحفوف بالمخاطر.

ثم قامت هذه المجموعات بتحريكِ أنشطتها في كل مجال، وبإصدار مجلات ذات جماهيرية يبلغ قراؤها عشرات الآلاف في حين يصل عدد قراء المجلة الفكرية ثلاثة آلاف، وتغلغلت النخب داخل الجامعات والمدارس الثانوية، ويمكننا أن نعرف هنا أن واحداً من المدرسين الثانويين هؤلاء كان محمد علي رجائي رئيس الوزراء فيما بعد، وكذلك عملوا على قيام مؤسسات مالية مستقلة للقوى السياسية الدينية حتى لا يستغل صوتها أحد وإلى آخر مثل هذه الوسائل الديناميكية في تحريك الوعي الديني السياسي.

كان النشاط الفكري كذلك للرموز الثقافية البارزة يتوجه في مسار العداء للتغريب، ولرفض التجربة الديمقراطية والعلمانية الغربية، وكان هذا يستقطب قوى واسعة من الفئات الوسطى الصغيرة، التي تعيش بين الفقراء والعمال وكبار التجار والرأسماليين الذين ازدهرت أعمالهم بشكلٍ هائلٍ من فيوض النفط، وهو أمرٌ يعبرُ عن قفزات التطور الرأسمالي الحكومي الفاسد غالباً، وغياب التصنيع، من دون أن يقوم مثقفو البرجوازية الصغيرة من يمين ويسار بتحليلاتٍ واسعة للمجتمع. وهو أمرٌ أدى لاصطفافهم التدريجي مع رجال الدين المتصاعد نشاطهم من جهةٍ أخرى.

سيادة شعارات مواجهة التغريب والعلمانية والحداثة كانت تعني في الأعماق السحيقة لتجربة هذه الأمة، الوقوف العميق ضد الآخر، ضد تغلغل عالم الأمم الأخرى، وهو أمرٌ يستعيدُ وسائلَ الدفاع القديمة التي يقفُ على رأسها رجالُ الدين المحافظون، وتعني الصدام الكلي، ولم تقم وسائل الشاه المتطرفة في التحديث الشكلاني غالباً، غير القومي، إلا بحفز قوى التطرف الدينية المعاكسة، للعودة الكلية الجوهرية إلى الدين المغلق، غير المنفتح، غير المحاور للعالم، وإلى العزلة القومية المتوجسة.

ولم يكن ثمة أسهل من تحريك وسائل العمل الدينية المتوارثة، وتغيير بعض جوانب العمل الفكري الديني المحافظ وصقله بطلاء حديث خارجي، وهو أمرٌ نتج من قراءات كبار رجال الدين لطبيعة الخطابات التحديثية لعناصر البرجوازية الصغيرة المتقلبة، المتذبذبة، بين الحداثة والدين، بين العلمانية والإقطاع، مثل علي شريعتي، وجاءتْ أحداثُ سنة 1963 لتجعل قراءتي الحدة والتضاد الكلي وهي قراءة الشاه وقراءة الخميني، تتواجهان.

قراءةُ الشاه سحقٌ كاملٌ للموروث وقراءةُ الخميني استعادةٌ كاملة للموروث! لم يكن ثمة حل وسط. وهما تشكلتا في زمن قصير لم يتح للتطور الاقتصادي أن يشكل أي جذور قوية للحداثة، وعصفت العمليةُ الرأسماليةُ بشكل فوضوي بسكون الريف وحرفه وعلاقاته وجيرته للخطاب المضاد، ومن الستينيات إلى السبعينيات زمن صدور كتاب الجمهورية الإسلامية، كانت قد تشكلت الكوادر السياسية المحافِظة لنظام العودةِ إلى الماضي، وسيادة الدين الشمولية، وعبّرتْ كثرةُ تنظيماتِ الالغاء الكلي وجماعاتُ العنف والارهاب وتديين الحداثة وأسلمة الماركسية عن الفوضى العقلانية الإيرانية وتسطيح الوعي السائد وضخامة استغلال الغرائز الجماهيرية في العمل السياسي.

من طائرةِ التحليق التي تحملُ خريطةَ إيران إلى الغرب، إلى طائرةٍ تحملُ إيران إلى الماضي الديني، إلى عالم القرية الأسطورية المغلقة، شكلان من القيادةِ الفرديةِ المطلقة تطرفَ كلٌ منهما في التوجه للجهة القصية الكاملة!

بين هذا وذاك، بين الغرب الكلي وبين الشرق المطلق، بين الشاه والخميني، بين الحداثة والمذهبية المحافظة، لابد من حلٍ وسط، هو الذي تقومُ به إيران الآن بمستواها وبتطورها السابق، تبحثُ عن لحظةِ نفي للحظتين مطلقتين متعارضتين كلياً في السابق، عن تركيبٍ بينهما، عن مصالحة مجددة متجاوزة!

وفي الستينيات تفاقمت المعركة بين السلطتين المدنية والدينية، لقد تصور شاه إيران عبر موارد النفط أن سلطته مثل طائرة عصرية تستطيع التحليق بإيران فوق العصور الوسطى، والنزول في الغرب العصري، كما يمكنها أن تطيرَ بها من العصر الإسلامي لتحط بها في العصر الإمبراطوري البهلوي. وكانت مظاهرُ القوميةِ الفارسية تتجلى حتى في إزالة المفردات العربية من اللغة الفارسية، وتحقير زمن التبعية للعرب.

 أخبار الخليج 23 مارس 2010