المنشور

صراع الدولتين المدنية والدينية في إيران ( 1- 2)


بخلاف التطور الاجتماعي في الدول الإسلامية عرفت إيران تأسيس حكم المذاهب الإمامية للدولة بعد قرون من انتشارها وتعدد صورها، فجاءتْ الدولةُ تتويجاً لهذا التطور، لا أداةً من أدواته، ولهذا فإن المجتمعَ عرف ثنائية السلطتين السياسية والدينية.

وتعبر السلطتان عن هيمنة الإقطاع بأشكالهِ الزراعية والسياسية والدينية، مثل بقية الدول العربية والإسلامية في القرون الوسطى. لكن في ظل إيران كانت السلطةُ الدينيةُ ذاتَ شبكاتٍ اجتماعية مقاتلة على مرِ العصور المكونة لاستقلال (الأمة) الفارسية، فكان (الجوهرُ) هو التضافرُ الشيعي – الفارسي، لا يَغلبُ أحدٌ من عنصريهِ المكونين، بسببِ النمو التاريخي السببي الاجتماعي، لكنه ظهرَ على صعيدِ الوعي وكأنه فعلٌ سماوي، فالتحم نضالُ الأئمةِ ومريديهم على الأرض باستقلالِ شعبٍ ونضاله، وبأعماله وتقدمه، وبرز تناقض بين السلطتين حين بدأ العصرُ الحديث واتجهتْ السلطةُ السياسية لمظاهر الحداثة المختلفة، وأخذت تكونُ لنفسِها ايديولوجيا غيرَ مطابقةٍ لمؤسسات رجال الدين.

كانت بذور التحديث موجودة لدى النادرين من فقهاء الشيعة، فظهرت آراء ديمقراطية لدى بعضهم من بداية القرن العشرين متداخلة مع الثورة المشروطية.
إن الحراكَ السياسي – العسكري للدول أسرع من الحراك الفكري الاجتماعي، وإذا لم تكن ثمة قيادةٌ موحدة لضبطِ إيقاعِ الأمة على الجانبين الرئيسين، نظراً لتضاربِ المصالح بين أقسامِها الإجتماعية، تحدث عملياتُ الصراعِ غير المنضبطة وغير العقلانية.

اتخذتْ الدولةُ البهلوية أساسين لوجودِها السياسي: الأساس الديني المذهبي، والأساس القومي الفارسي القديم. وهي عمليةٌ مزودجةٌ تعبرُ عن هشاشةِ وجودِ الدولةِ القومية وعدم تحضرِها الزمني، وعن ركوبِ العسكريين فوق صهوتِها بسرعةٍ شديدة جرحتْ لحمَها الطري. وظهر ذلك في محاولةِ رضا شاه الملك سنة 1925 بفرضِ الديكورات التحديثية على الناس، وإلزامهم بثياب معينة وخاصة إلزام النساء بملابس (الحداثة) مما سبّب ثورةً دامية!

فكانت الظروفُ مغايرةً بين الأمتين التركية والفارسية، وعملية النقل التحديثية الكارتونية للكاربون الأتاتوركي تلك تعبر عن الهشاشة في وعي جهاز الدولة الفارسي العسكري، ولكن من جهةٍ أخرى تعبرُ عن عاصفةٍ قادمة كاسحة خطيرة، لم تكن الأمةُ الفارسية على مختلف الأصعدة موحدةً تجاهها!

وتصاعد الأساسُ القومي وبرزت له مؤسسات تحديثية، ولم يعد التعليمُ الديني هو التعليم الوحيد كما كان الأمر سابقاً، وتطور التعليم المدني تطوراً واسعاً على حساب التعليم الديني، وأخذت الدولة تنتزعُ العديدَ من سلطات رجال الدين، وتُدخلُ مظاهرَ الحياة الحديثة في الكثير من مظاهر الحياة، وتغلغلت الصناعات والبضائع والمواد الثقافية الأجنبية وخاصة الغربية في المجتمع بشكلٍ واسع.

والدخول (البريء) للسلع ليس مضراً إذا لم يكن تصادمياً مع قوى الإنتاج المحلية، وهو لا يُشعر به في البداية لكن انهمار السلع وتحول إيران إلى سوق بضائعية مفتوحة من دون حمائية اقتصادية أمرٌ مقوض، كذلك فإن السلع الثقافية تقوم بإزاحة موروث عريق، وتجعل المنتجين الثقافيين من دينين وعصريين، مستهلكين مشترين مسلوبين.

إن تحول بلد قديم كبير منتج إلى سوق تابعة للرأسمالية الغربية يؤدي إلى انهيار إنتاجه الحرفي وهو أساسُ اقتصاده القديم، وهو أمرٌ لاحظناه في صرخةِ المثقف الإيراني جلال آل أحمد ضد التغريب، والمقصود بها حماية الإنتاج المحلي بشكليه المادي والثقافي.

لكن لم يكن الصدام بين إيران والاستعمار الغربي كبيراً أو مدمراً كما كان الأمر لدى شعوب أخرى كالجزائر وفيتنام عادت علاقاتها مع الغرب بسهولة نسبياً، فحتى الاحتلال لم تذقه بشكل مؤثر، فلماذا هذه الحدة الكبرى؟! ولماذا هذه الحساسية الكبيرة تجاه الهيمنة الأجنبية؟! علينا أن نقرأ المواد السياسية والفكرية والاجتماعية لنرى هذه الدراما المأساوية.

إن الهشاشة والفجاجة التحديثيتين للشاه الأب لم تكن تقارن بالشاه الابن، فقد تفاقمت سلطته بشكل كبير عبر تدفق فوائض النفط، وغياب أدوات الرقابة، والنمو الهائل لرأسمالية الدولة، التي كانت مجموعات من الشركات الكبرى لعائلة الشاه ولأصدقائها، والمتجهة لإنتاج نفطي احادي مع بذخ واسع وقوى عسكرية هائلة فدخل في مواجهة حادة كبرى ضد ما هو قديم ومتدين في إيران!

صحيفة اخبار الخليج
22 مارس 2010