المنشور

عاشق السكسفون… يرحل دون سكسفون


رن جرس الهاتف وكان على الخط أحد الرفاق من جبهة التحرير وقال بصوت متهدج دون مقدمات: «عبدالله هل تسمعني؟ مجيد مرهون عطاك عمره، والدفن في مقبرة المنامة بعد صلاة العصر».

انتهت المكالمة. ولا أعرف كيف مر الوقت منذ الثانية عشرة والنصف حتى وجدت نفسي وحشودا من الناس في المقبرة، ربما معظمهم من رفاق مجيد مرهون، وعدد ربما يوازيهم من فريج «سنككي» مسقط رأسه.

في البحرين استطاعت جبهة التحرير الوطني البحرانية، أن تستقطب الفئات المعدمة والمسحوقة مثل العمال في شركات الإنشاء والبناء، والنفط، وكان مرهون أحد هؤلاء العمال، إذ يعمل ميكانيكيا تحت التدريب في المدرسة التابعة للشركة «بابكو». كان بوب هو رئيس قسم الاستخبارات (C.I.D) وهو الذي يقود عملية المداهمات لبيوت المطلوبين للقبض عليهم. كما حصل للأخ رفيق الدرب الطويل المناضل أحمد الشملان، وشاكر عقاب، وراشد القطان في أبريل/ نيسان 1965 في فريج البوخميس بالمحرق، حيث كانوا يختبئون في ذاك البيت (المخبأ).

وهو الذي جاء إلى بيتنا في التاسع من ذلك الشهر ومعه عدد من المخبرين وكسروا الباب لأنني أحكمته من الداخل بـ (الدنجل) وجذوع النخل، وتمكنت من الهرب عبر سطوح منازل الجيران.

وفي عام الانتفاضة المجيدة (1965) احتجاجا على شركة النفط لتسريحها الدفعة الأولى (400 عامل)، وتم الإجهاز على الانتفاضة باعتقال ما لا يقل عن (2500) مواطن من كل أنحاء البحرين، مدنها وقراها، وكان الاسم الأبرز في حملة الاعتقالات هو الضابط الإنجليزي المعروف بـ (بوب)، الذي كان يتحدّث بصوتٍ عالٍ وسخرية وتحدٍ قائلا: «البحرين ما فيها رجال».

في 12 مارس/ آذار 1966، دوى انفجار عند دوار القلعة في سيارة من طراز هلمن وكان الضحية هو بوب. وبعدها ببضع دقائق دوى انفجارا آخر استهدف جلادا آخر من جنسية عربية يدعى (أ. م).

بعد ستة أشهر من انطلاق انتفاضة مارس 65 تم فرز المعتقلين الذين قارب عددهم 2500، وتم تصنيفهم وإطلاق سراح معظمهم. وبقينا 35 معتقلا في جزيرة جدا موزعين على سجن بيت الدولة، والسجن الرئيسي لزنازن الجنوبية وجبل السعودية.

شاكر عقاب كان في زنزانة العقاب رقم 1 والتي قضى معظم فترة سجنه فيها لنشاطه خلال انتفاضة مارس ومسئوليته مع عدد من عناصر الحركة عن إحراق 21 حافلة من حافلات شركة النفط وهي متوقفة ليلا في «كبون» الشركة (مطعم ديري كوين بالقفول حاليا). ولكون زنزانته قريبة من «اللنكر» (المطبخ والخباز)، فقد كان مصدر الأخبار القادمة من القلعة والديرة، وكان يسربها لبقية السجناء السياسيين، بطريقة الدندنة والغناء، بحيث لا يفهمها رجال الشرطة الذين لا يجيدون العربية.
في صباح ربيعي جميل نشم رائحته عبر كوة الزنزانة في جزيرة جدا، سمعت من خلف زنزانتي رقم (2) جلبة صوت قيود السجين جاسي، فقد تعودنا على تمييز (مشية) بعض الجنائيين من صوت القيد. اقترب للزنزانة من الخلف وأحدث جلبة، فتسلقت الزنزانة بشكل عرضي باستخدام حبل حتى بلغت السقف، فقال بصوت تملأه الغبطة والفرح: «بوب حطو له قنبلة في سيارته وانفجرت فيه هذا الصباح»، وغادر مسرعا وهو يجلجل بقيوده. لم أتمالك نفسي من وقع الخبر فانخرط بي الحبل إلى أسفل الزنزانة ووقعت على الأرض.

الكلام بين السجناء كان ممنوعا، والحصول على الأقلام والأوراق من رابع المستحيلات، ولذلك حفرنا ثقوبا بين الزنزانات العشر لنتواصل عبرها. وسرعان ما نزلت للثقب الذي يوصلنا بالزنزانة رقم (3)، دققت الدقات الأربع المتفق عليها وأجابني الطرف الآخر! ولما أبلغته الخبر وإذا بصرخة قوية تنطلق كأن عقربا لدغت عبد الرحمن جكنم، الذي نسي نفسه في غمرة الفرح.

تنبه الشرطي للصراخ الصادر من الزنزانة فهرول باتجاهها، وفتح كوة الزنزانة وسط الباب، وسأله بعربية مكسرة: «إيش فيه أنت صرخ»، فأجابه جكنم: «بطني يعورني»، ووضع يده على بطنه ليمثل دور الألم. فانطلت الحيلة على الشرطي وفتح له الباب فهرول جكنم إلى الحمام، وفي الطريق أخذ يبث الخبر على بقية الزنزانات.
عندما حان وقت صلاة الظهر، كان أحمد الشملان يرفع الأذان، وكنت أنوب عنه أحيانا، لكنه في ذلك اليوم بعد أنهى الشملان الأذان ختمه بالآية الكريمة: «وما ربك بغافلٍ عن ما يفعل الظالمون».

في حديث خاص جدا مع مجيد مرهون في سجن جدا العام 1976، بعدما أفلت من الموت بينما استشهد يومها كل من محمد غلوم بوجيري وسعيد العويناتي، ثم أوقفوا التعذيب وقال إيان هندرسون لي قرب الزنزانة التي استشهد فيها محمد غلوم:  ( over  The Case Is   ( ” لقد انتهت القضية “، وأضاف: «سوف ننقلك إلى جدا لكي تتعافى مما أنت فيه».

في ليلة من ليالي سجن جدا، تسلل مجيد مرهون حتى حاذى سياج سجن بيت الدولة وجلس القرفصاء، وأشعل سيجارته، وانكب في حديث لم ينتهِ إلا يوم نقلنا بصورة مفاجئة من سجن جدا إلى سجن جو الجديد.

مجيد مرهون تحدث كثيرا عن الفن والسياسة والأدب، وعن قاموسه الموسيقي الذي كان يكتبه بخط جميل في دفاتر زرقاء (100 ورقة)، أودعها عندي لمدة أسبوع، قرأتها وأبديت رأيي في بعضها. كانت جهدا مضنيا عكف عليه سنوات طويلة، لاحظت درجة التدقيق والتصحيح التي مر بها قبل أن يدونه بصورة شبه نهائية. وحين أطلق سراحه جاءني بنفس الدفاتر وطلب مني عرضها على إدارة الصحيفة التي كنت أعمل بها، ووافق مدير الإنتاج وتحمس لطباعتها، إلا أن الإدارة العليا رفضت الفكرة متعللة بكبر حجم الكتاب، وربما لأسباب سياسية. هذا الكتاب (القاموس الموسيقي) الذي طبع بعد أن حفيت قدماه، وكان حلمه الأجمل.

كان لدى مجيد مرهون احتفال سنوي خاص، ففي صباح كل يوم 12/3 يحمل معه عددا من (اللمبات) التالفة كونه مسئولا عن كهرباء الجزيرة، ويختلي بنفسه في أحد الجبال، وحين تدق الساعة 7:40 صباحا يقوم برمي (اللمبات) فتنكسر، محدثة صوتا يطرب له مجيد، وذلك احتفاء بصباح ذلك اليوم الذي نشرت فيه جبهة التحرير الوطني بيانا عنوانه: «لا يفل الحديد إلا الحديد»، ولعل الأخوة في المنبر الديمقراطي يحتفظون به في أرشيفهم، فنرجو أن ينشروه لكي يتعرف شعب البحرين على جزء من تاريخ نضاله أيام العسر والشدائد.

خاتمة

غادرنا مجيد مرهون، عازف السكسفون، كما أسماه القاص البحريني محمد عبدالملك، صاحب كتاب «موت صاحب العربة». مرهون… ذاك العامل ذو الشعر الأجعد والعينين المفتوحتين كعيني الذئب، الذي التقطته جبهة التحرير الوطني من فريج سنككي. الشاب الذي زرع القنبلة للجلاد بوب، الذي قال «البحرين ما فيها رجال»، فردّ عليه بفعله أن في البحرين رجالا، وأسفر التفجير عن إصابته بكسر بليغ في عموده الفقري ورجليه، وأصبح مقعدا يعاني لسنوات، حتى انتهى الجلاد إلى القبر.


طوبى لك يا عاشق السكسفون… يا مجيد مرهون
 
الوسط 21 مارس 2010م