المنشور

صراع مكتوب له أن‮ ‬يمتد ويطول

ارتبطت الكشوفات الجغرافية العظمى‮ ‘‬اكتشاف رأس الرجاء الصالح على‮ ‬يد البرتغالي‮ ‬فاسكو دي‮ ‬غاما،‮ ‬واكتشاف أمريكا على‮ ‬يد الأسباني‮ ‬من أصل إيطالي‮ ‬كريستوفر كولومبوس،‮ ‬وقارة أستراليا على‮ ‬يد الإنجليزي‮ ‬كوك وغيرها من الاكتشافات الجغرافية‮’‬،‮ ‬ارتبطت بسعي‮ ‬الطبقات الجديدة التي‮ ‬أحاطت آنذاك بالملكيات المتبرجزة المتأثرة بصعود الرأسمالية الفتية،‮ ‬للبحث عن تعظيم الثروات والملكيات والحيازات خارج نطاق عوالمها وأسواقها التي‮ ‬لم تعد فضاءاتها وطاقاتها الاستيعابية تتناسب مع طموحات الرأسماليات الصاعدة في‮ ‬القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر‮.‬
على ذلك فإن ما تسمى بالكشوفات الجغرافية ما هي‮ ‬في‮ ‬التحليل الأخير سوى الوجه الآخر للاستعمار الحديث الذي‮ ‬شكل،‮ ‬بحد ذاته،‮ ‬مفصلاً‮ ‬هاماً‮ ‬في‮ ‬الحقب التاريخية،‮ ‬التطورية،‮ ‬للمجتمعات العالمية المعاصرة،‮ ‬حيث انطلقت الدول الأوروبية التي‮ ‬شهدت أولى الثورات البرجوازية‮ (‬هولندا وإنجلترا وأسبانيا وفرنسا‮) ‬لتوسيع رقعة أسواقها والاستيلاء على طرق إمدادات جديدة‮ ‬غزيرة المخزون من المواد الخام لصناعاتها الناشئة‮.‬
فلا‮ ‬غرو أن تترافق الحملات الاستعمارية التي‮ ‬قامت الدول الاستعمارية الأوروبية في‮ ‬دول القارة الآسيوية والأفريقية،‮ ‬مع إنشاء أولى الشركات العابرة للقارات مثل الشركة الهولندية الشرقية وشركة الهند الشرقية البريطانية منطقة الشرق الأوسط وتحديداً‮ ‬المنطقة العربية هي‮ ‬إحدى المناطق التي‮ ‬شكلت إغراءً‮ ‬دائماً‮ ‬ومطمعاً‮ ‬للمغامرين والطموحات التوسعية الرأسمالية،‮ ‬لما تتمتع به من ثروات طبيعية هيدروكربونية ومعدنية وموقع استراتيجي‮ ‬يصل الشرق بالغرب سواء لجهة خطوط التجارة العالمية أو خطوط إمدادات وتمركز واتصال الجيوش‮. ‬فكان استعمار بلدان هذه المنطقة في‮ ‬القرنين التاسع عشر والعشرين سبيلاً‮ ‬لاستغلال واستثمار هذه الثروات والامتيازات بأشكال وصور مختلفة انطوت على ارتكاب جرائم وحشية وتدبير دسائس ومؤامرات لازالت بلدان المنطقة تعاني‮ ‬منها وتدفع أثمانها باهظة‮.‬
يأتي‮ ‬في‮ ‬مقدمة هذه المؤامرات والجرائم وأعظمها خطباً،‮ ‬اتفاقية سايكس بيكو السرية بين بريطانيا وفرنسا التي‮ ‬وقعها عن بريطانيا مارك سايكس ووقعها عن فرنسا فرانسوا جورج بيكو في‮ ‬عام‮ ‬1916‮ ‬وتم بموجبها تحديد وتقاسم مناطق النفوذ في‮ ‬العالم العربي‮ ‬بين الدولتين إثر تهاوي‮ ‬الدولة العثمانية في‮ ‬أعقاب الحرب العالمية الأولى،‮ ‬حيث كانت المنطقة العربية خاضعة لسيطرة الدولة العثمانية‮.‬
وبموجب الاتفاقية حصلت فرنسا على الجزء الأكبر من الجناح الغربي‮ ‬للهلال الخصيب‮ (‬سوريا ولبنان‮) ‬ومنطقة الموصل في‮ ‬العراق‮. ‬أما بريطانيا فامتدت مناطق سيطرتها من طرف بلاد الشام الجنوبي‮ ‬متوسعاً‮ ‬في‮ ‬الاتجاه شرقاً‮ ‬لتضم بغداد والبصرة وجميع المناطق الواقعة بين دول الخليج العربية والمنطقة الفرنسية في‮ ‬سوريا‮. ‬كما تقرر أن تكون فلسطين تحت إدارة دولية‮ ‬يتم الاتفاق عليها بالتشاور بين بريطانيا وفرنسا‮. ‬ومع ذلك فقد نص الاتفاق على منح بريطانيا مينائي‮ ‬حيفا وعكا على أن‮ ‬يكون لفرنسا حرية استخدام ميناء حيفا،‮ ‬ومنحت فرنسا لبريطانيا بالمقابل استخدام ميناء الاسكندرونة الذي‮ ‬كان سيقع ضمن مناطق حيازتها‮. ‬وقد جرى التأكيد مجدداً‮ ‬على فحوى اتفاقية سايكس‮  ‬بيكو في‮ ‬مؤتمر سان ريمو عام‮ ‬‭.‬1920
بعدها أقر مجلس عصبة الأمم وثائق الانتداب على المناطق المعنية وذلك في‮ ‬24‮ ‬يونيو‮ ‬‭.‬1922‮ ‬فيما عقدت فرنسا اتفاقية جديدة باسم اتفاقية سيفر تم التنازل بموجبها عن الأقاليم السورية الشمالية لتركيا الأتاتوركية‮ (‬بعد التوقيع على معاهدة فرساي‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬1919‮ ‬المتعلقة بالدول المهزومة في‮ ‬الحرب العالمية الأولى وهي‮ ‬الدولة العثمانية وألمانيا القيصرية وإمبراطورية النمسا-المجر وغيرها من الدول الصغيرة،‮ ‬خُصت تركيا التي‮ ‬قامت على أرجلها الضعيفة من أنقاض الدولة العثمانية باتفاقية سيفر في‮ ‬10‮ ‬أغسطس‮ ‬1920‮).‬
بعد هذا وكما صار معلوماً‮ ‬لاحقاً‮ (‬تم الكشف عن فضيحة سايكس بيكو في‮ ‬عام‮ ‬1917‮ ‬بعد قيام الثورة البلشفية في‮ ‬روسيا بنشر الوثائق السرية للمعاهدات الدولية التي‮ ‬تفضح تورط الغرب في‮ ‬الكثير من القضايا الدولية‮)‬،‮ ‬تم إنشاء إسرائيل كمشروع‮ ‬غربي‮ ‬مشترك أسهمت فيه كل دولة‮ ‬غربية بنصيبها وإن كانت المساهمة الأكبر في‮ ‬بداية المشروع من نصيب بريطانيا ومن بعد الولايات المتحدة الأمريكية،‮ ‬وذلك من أجل تغطية الفراغ‮ ‬الذي‮ ‬شكله انتهاء الوجود المادي‮ ‬الغربي‮ ‬الاحتلالي‮ ‬للمنطقة‮. ‬ولا ننس المساهمة الفرنسية الكبرى المتمثلة في‮ ‬تزويد إسرائيل بالسلاح النووي‮ ‬لضمان تفوقها الساحق على البلدان العربية وردع حكوماتها المتعاقبة عن التفكير في‮ ‬إنهاء الاستعمار الصهيوني‮ ‬لفلسطين‮. ‬وهكذا فإن الدول الغربية انسحبت وأنهت احتلالها للبلدان العربية ولكن ليس قبل أن‮ ‘‬تغرس مسمارها في‮ ‬الباب العربي‮’ ‬لاستخدام هذا‮ ‘‬المسمار‮’ ‬حصان طروادة‮ ‬يُؤمِّن لها استمرار واستدامة التمتع بامتيازاتها المكتسبة‮ (‬المادية والإستراتيجية‮) ‬إبان حقبتها الاستعمارية‮. ‬بهذا المعنى تكون إسرائيل مشروعاً‮ ‬غربياً‮ ‬أُسس ليبقى حارساً‮ ‬أميناً‮ ‬يذود عن المصالح الغربية في‮ ‬منطقة الشرق الأوسط‮. ‬وهي،‮ ‬أي‮ ‬إسرائيل،‮ ‬معنية،‮ ‬طبقاً‮ ‬لهذه الوظيفة،‮ ‬باستخدام كافة ما بحوزتها من إمكانيات للتصدي‮ ‬لأية محاولة نهوض حقيقية في‮ ‬المنطقة العربية‮.‬
وهذا ما‮ ‬يفسر مباركة الغرب لكل ما تقوم به الدولة العبرية من أعمال عدوانية وتوسعية في‮ ‬الأراضي‮ ‬العربية،‮ ‬والصمت على جرائمها التي‮ ‬لا تقل عن جرائم النازية‮. ‬لذلك فإنه حتى بعد مرور ستة عقود على اكتمال إنشاء المشروع‮ (‬إسرائيل‮)‬،‮ ‬حيث نجح الغرب في‮ ‬تجنيب إسرائيل أية استحقاقات قد تنال من أو تؤثر على أسس المشروع ومقومات وجوده،‮ ‬وذلك باتباع سياسة الخداع والتضليل ونشر الأوهام لدى الجانب العربي‮ ‬عبر طرح مبادرات متناسخة الواحدة عن الأخرى من دون أن‮ ‬ينتج عن هذه المبادرات‮ ‘‬طحيناً‮’ ‬بقدر ما أنها تمنح إسرائيل المزيد من الوقت لتكريس واقعها ومشروعها الاستعماري‮ ‬على الأرض أكثر فأكثر،‮ ‬حتى وصل الحال بالحكومات العربية للقبول بدولة فلسطينية مسخ ليس لها أي‮ ‬مقومات الوجود والاستمرار‮. ‬بمعنى أن تلك‮ ‘‬المبادرات السلمية‮’ ‬الأمريكية والغربية عموماً‮ ‬ليس هدفها إنتاج حل عادل ونهائي‮ ‬وإنما لإبقاء الحال على ما هو عليه وإشغال العالم العربي‮ ‬بشكل دائم كي‮ ‬لا‮ ‬يتفرغ‮ ‬لاستحقاقات الداخـل‮. ‬وتصب التحركـات الدبلوماسية الأمريكية الأخيرة في‮ ‬هذا الاتجاه‮.. ‬اتجاه الخداع والتضليل والإيهام‮. ‬أصبحت إسرائيل اليوم أقوى بكثير مما كانت عليه في‮ ‬السنوات العشرين الأولى من تأسيسها‮. ‬
فلقد نجحت أوليغارشيتها المالية عبر العالم في‮ ‬السيطرة على مفاتيح الحياة الاقتصادية والسياسية والثقافية في‮ ‬البلدان الغربية لدرجة أنه حتى بعد مرور نيف وخمسة عقود على انتهاء الحرب العالمية الثانية فإن حكومات هذه الدول تحرص على تدريس الهولوكوست للأطفال من أجل الإبقاء على جذوة الذنب تجاه ما اقترفه النازيون‮ (‬وليس الأوروبيين‮) ‬ضد اليهود إبان تلك الحرب،‮ ‬وذلك من أجل كسب ود وعدم إغضاب حيتان المال اليهود‮. ‬إنما الحق،‮ ‬كل الحق،‮ ‬على العرب وعلى الحكومات العربية نفسها،‮ ‬فهي‮ ‬التي‮ ‬قبلت بشروط هذه اللعبة القذرة،‮ ‬وهي،‮ ‬بمسايرتها للاعبين الأمريكيين والأوروبيين،‮ ‬قد سهلت مهمتهم ومهمة المشروع الإسرائيلي‮ ‬في‮ ‬السير قدماً‮ ‬على طريق ترسيخه‮. ‬هناك دول أقل شأناً‮ ‬استراتيجياً‮ ‬وأقل طاقات اقتصادية ثابتة وكامنة،‮ ‬استطاعت بفضل توظيفها لهذه الطاقات من انتزاع حقوقها وحماية مصالحها من دول‮ ‬غربية أقوى وأشد شكيمة منها‮. ‬بينما العرب الذين‮ ‬يحوزون على أوراق رابحة استثنائية،‮ ‬لا‮ ‬يجدون‮ ‬غضاضة في‮ ‬تطمين الغرب وحكوماته المنحازة ضد المصالح العربية،‮ ‬بأن مصالحها مصانة‮!‬
 
صحيفة الوسط
20 مارس 2010