المنشور

تحركات الفئات الوسطى في المنطقة

أشرفتْ الهيمناتُ الحكومية في الدول العربية والإسلامية على الانتهاء، عدةُ عقودٍ سابقة استنزفتْ قوى تطورها، ولم تعدْ قادرةً على نقلِ هذه الدول لمرحلةٍ جديدة من الحرية والديمقراطية.
أسهمَ في ذلك تبدل المنظومةِ الحكومية الرأسمالية في الدول (الاشتراكية) وانطلاق القطاعات الخاصة بقوة فيها وعمليات الجمع بين رأسمالياتِ الدول والديمقراطية، وتنامي عمليات الاتصالات والثورة المعلوماتية، واختراق كل الأسلاك الشائكة للدول الشمولية، وتوسع القطاعات الرأسمالية خاصة الصغيرة والمتوسطة في الكثير من الدول، ونمو حريات سياسية واستعادة العديد من التنظيمات السياسية العريقة لدورِها وبدايات قراءات جديدة لتاريخها الذي كان لا يخلو هو الآخر من جمودٍ وشمولية.
لكن هذا لا يعني ان حقبةَ الدول الشمولية قد انتهت، بل تتجدد خطورة بعض هذه الأنظمة لاستمرار نهجها العسكري القمعي ضد شعوبها وتهديد جيرانها وتشكيل أخطار على السلام في المنطقة. وهو أمرٌ يوسع النفقات العسكرية إلى قمم عليا تلتهمُ المواردَ المخصصة للتنمية والخدمات، وتضعف بالتالي التطور الديمقراطي المأمول. وهي تستفيد كذلك من نمو موجة الرأسمالية الخاصة لكي توظفها كذلك لنمو مشروعاتها بالباطن، وتحجم الحريات في جداول ضيقة.
كما أن التنظيمات الطائفية السياسية التي كانت حصيلة زمن الشمولية السياسي والمزدهرة الكبرى فيها، لم تعالج إشكاليات أفكارها المحافظة وركونها للماضي المتخلف، وضعف تحليلها للمشكلات الجماهيرية وخوفها من التعاون مع القوى السياسية لكي تفهم ما يدور وتعمل بأشكالٍ سياسية حصيفة، بل هي تضيفُ مشكلاتٍ أخرى للمجتمعات الشمولية وتوسع التطرف وتغذي الأمية وتمنع الحريات النسائية والعقلية، وتساعد الدكتاتوريات بصور غير مباشرة، وتعجز عن قراءة الأديان في ضوء العصر الديمقراطي العلماني.
إن هذا يعكس صعوبات نمو الرأسمال الخاص الديمقراطي، حيث الفضاء الاقتصادي مهيمنٌ عليه، وهو الذي نما بصعوبات، وانقطعتْ علاقاتهُ بالوعي السياسي الديمقراطي، خوفاً على استثماراتهِ المحاصرة، ومخالب الحكومات والتنظيمات الدينية المتغلغلة في كل مكان.
لكن مع ذلك نرى التحركات الشعبية الديمقراطية الواسعة في إيران تؤكد أن الهيمنة الحكومية الاقتصادية العسكرية لم تعدْ مقبولةً من قبل الشعب الإيراني، ولم يؤدِ الحرس والباسيج ومئات الآلاف من أفرادهما، وشبكة الدينيين الهائلة إلى قمعِ أصواتِ الحرية، ومنع توسع الحركة الشعبية يوماً بعد يوم، ويعيشُ النظامُ أزمةً غير مسبوقة. وكانت ثمة إمكانية للتسوية لكنها توارت واتجه الفريقان للصراع الحاسم، لكنها أزمة طويلة تقودها فئات وسطى مدنية ليست قوية صناعيا ولا فكريا، تتحرك عبر خطى سلمية طويلة الأمد وصغيرة لكنها متراكمة.
كذلك بدأت القوى المدنية الديمقراطية المصرية بالتحرك وكانت عودة محمد البرادعي حجراً كبيراً أُلقي في بحيرة راكدة، والمجتمع المصري مغاير للمجتمعات الشرقية الأخرى، حيث توسعت الطبقة الوسطى منذ عقود، واستعادت ميراثا ديمقراطيا متجذرا في البيئة المصرية، كما أن القطاعَ العام وصل إلى ذروة من البيروقراطية والفساد والعجز عن فتح آفاق كبيرة للاقتصاد، وللحياة والثقافة. ومن هنا تركزت معركة القوى الديمقراطية المصرية في مسألة الرئاسة التي هي مفتاح التغيير الجذري المنتظر لمصر، وبالتالي إلغاء العقبات التي تمنع جعلَ هذا المنصب عجزا سياسيا يماثل ظواهر العجز الاقتصادي.
كما أن التحولات الانتخابية في العراق وصعود القائمة الوطنية رغم كل الهيمنة الدينية السياسية والقومية الشمولية، تشير إلى انتفاضة الشعب العراقي ضد القوى الطائفية والمحافظة.
هذا يجري في دول كبرى في المنطقة وتكتمل الصورة بالحراك الجنوبي في اليمن، وهزيمة القوى الإرهابية في الجزائر، وتبدل السودان، وتصاعد انتقادات وحركات القوى الديمقراطية في العديد من الدول الأخرى.
تتطلب هذه العملية الديمقراطية المتقطعة، الضعيفة الجذور الاقتصادية، المزيد من التحليلات لرفد القوى السياسية الهشة بفهم الترابطات بين حركات رجال الأعمال والقوى الاجتماعية الشعبية وبتوسيع مراكز الفكر والبث الإعلامي، وتحديد بؤر التطور الاقتصادية الاجتماعية، وتبادل المواد الفكرية والسياسية وإيجاد علاقات بين الحركات الديمقراطية “الوليدة” من أجل التعاون والسلام في المنطقة.

صحيفة اخبار الخليج
20 مارس 2010