المنشور

هل تظهر طبقةٌ وسطى حرةٌ في العراق؟ (2 – 2)

بين نوري المالكي وإياد علاوي منافسة شديدة، وقد عبرت الانتخابات العراقية عن إمكانية صعود كتلة علمانية ديمقراطية في وجه الوعي المذهبي المحافظ، وقدرة تحالف سياسي جديد على تحدي سلطة رئيس الوزراء العراقي.
جاءت النتائج الانتخابية بصعود التيار الشيعي بشكل أكبر من غيره: إنه كتلةٌ شيعيةٌ سياسيةٌ منقسمةٌ على نفسِها في تحالفين لا نرى ثمة تباينا ايديولوجيا بينهما، فكعادة التوجهات الدينية تقومُ على زعامات وليس على أفكار، وإن كان التجمعان الشيعيان العراقيان الإصلاحيان يرفضان مبدأ ولاية الفقيه، استقلالاً للعراق من الهيمنة الإيرانية الحكومية المباشرة.
التوجه الليبرالي العلماني الذي يقوده إياد علاوي فاجأ الرأي العام بصعوده البارز وطلوعه بقوةٍ من بين الكتل المذهبية ومن بين الأكراد كذلك.
إن إياد علاوي هو وليدُ طبقةٍ وسطى قديمة في العراق، كان جده من الشخصيات البارزة في عهد الدولة العثمانية، واشتغل والدهُ في المجال الطبي وأسس مستشفيات، وكان بعض أقربائه من الفئات الوسطى البارزة خاصة في المجال الصناعي. وقد اختلف مع حزب البعث الذي انضم إليه وغادر البلد وشكلَ معارضة، وألفَ أولَ حكومة بعد سقوط النظام السابق، وقامت بتغييرات اقتصادية مهمة.
إن تجميعه للقوى الليبرالية والديمقراطية العلمانية، وانتصار القائمة العراقية التي يقودها في المناطق الوسطى وبعض المناطق الكردية وتغلغله في المناطق الجنوبية كذلك، يعبر عن انتشارٍ ملفتٍ للقوى الوطنية التي لم تستطع القوى الأخرى الدينية والكردية أن تمنع تصاعدها.
من الواضح هنا عبر هذه النتائج انقسام الطبقة الوسطى لمجموعات سياسية متعددة، ولاتزالُ الشريحةُ السياسيةُ الشيعية في تبعية للقوى المحافظة سواء العراقية أم الإيرانية، طارحة شعارات مذهبية تعبر عن مرحلة دنيا من حراك العراقيين. فهذه تشكلت عبر التغذية الإيرانية عبر عقود سابقة، وهذا التداخلُ الإيراني – العراقي المتضافر خلال عقود، الذي لم تفرزهُ حركةٌ قوميةٌ تنويرية على الجانبين العراقي والإيراني، بل جاءت الحركةُ القوميةُ العربية الشموليةُ لتكرس تداخلهما، فاستفادت الكتلُ الشيعيةُ السياسية من عملية التغيير السريعة الانفجارية واستثمرت القوى السكانية العددية الكبرى. وهذا تعبيرٌ كذلك عن ضعف عمليات الإصلاح السابقة والراهنة، وانتشار البؤس بين الجماهير الفلاحية خاصة، التي تدفقت على الأحياء الشعبية. وهذا الكم العددي المسحورُ بالأدعيةِ والشعارات الدينية يسهلُ تجنيده في تجمعات سياسية تطرح غموضاً برامجياً، من الناحيتين الطبقية والقومية، وبالتالي ترفض العلمانية السياسية لكونها تزيلُ الغشاءَ عن تلك البرامج الغامضة، التي تصعدُ فئاتٍ وسطى متعددة الانتماءات الاجتماعية والسياسية والحكومية لتحصل النصيب الأكبر من الثروة بتقرير كيفية نموها ومشروعاتها. ومن هنا يصعبُ تشكيل طبقة وسطى حرة، رغم تنامي الإنتاجات الحرفية والزراعية والصناعية الخاصة، وبدء التحاق العراق بالسوق العالمية بشكلٍ واسع.
ولهذا فإن رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي يمثل هذا الاتجاه العملي المحافظ الذي ينمو داخل الفئات الوسطى الغارقة في الحياة الدينية، فهو من المنتمين إلى جماعة الدعوة، لكنه عاش فترة طويلة خارج العراق. إنها كتلٌ شيعيةٌ سياسيةٌ تعيشُ في هذا البرزخ العراقي – الإيراني – الوسطي – المحافظ، لم تستطع تطوير فكرها السياسي، نظراً لدينيتها المحافظة، نتاجِ العصرِ الوسيط، بكل حديثه عن الملةِ لا عن القومية، عن المسلمين لا عن مصالح القوى الاجتماعية المتباينة المسلمة وغير المسلمة كذلك. أي هو نتاجُ الغبشِ بين المحافظة والديمقراطية التي لم تتجذر.
ومن هنا فإن تحالفاتها لتكوينِ حكومةٍ تخضعُ لذلك، فهي لا تتوجه لتكوين طبقة وسطى حرة، تضعُ أغلبيةَ المواردِ للتصنيع والتوحيد، لكن برامجَ تنشيطِ الاقتصاد وإزالة العقبات الهائلة أمام مختلف الخدمات ووقف الإرهاب، ستظلُ تتحكم في نشاط الحكومة المقبلة مهما كانت هويتها الاجتماعية. أي هي عملياتُ مقاربةٍ للتحديث تخضعُ للمساومات بين الدول المؤثرة في العراق وفي صراعاتها وصراعات القوى الداخلية على الموارد.
إن انتصار كتلة علاوي تشير إلى أن قسماً كبيراً من الجماهير قد مل التجاذبات الطائفية، وتصاعدت فيه الوطنيةُ العراقية، ويريد توجه الحكومة نحو حل مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. إن اختراقَ هذه الكتلة للمنطقتين الكردية والشيعية مؤشرٌ على أن قسماً من هاتين المنطقتين يتوقُ للتوحيد، رغم أن هذا التوقَ ضئيلٌ لكنه مبشرٌ، خاصة مع قدرة القائمة الوطنية على تنفيذ وعودها وحفر إصلاحات اقتصادية وسياسية قوية.
إن هذا التوحيد لا تشكلهُ في الآونة الراهنة مع نومِ الطبقة العاملة وجماعاتها السياسية، سوى البرجوازية التي لديها الأموال والخبرة والشعارات المناسبة لهذه الفترة. لكنها كذلك تعطي بوابةً لفصائل هذه الطبقة أن تنسحبَ من عوالم الطائفية والتبعية لايديولوجيات الإقطاع الديني، وأن تجددَ أفكارَها وتقيمَ علاقات وطنية عراقية، بدلاً من علاقات شيعية فقط أو كردية فقط، أي أن تنصهرَ مجدداً في النضال الوطني. ونشوء هذه العلمانية في أغلب المناطق السنية ليس لطابع قومي، لكن لأن هذه المناطق كانت سباقةً في الوعي القومي وتبني العلمانية.
الشعارات المناسبة وتنهيض وعي العراقي الوطني، والرد على مخاوفهم من الابتلاعات السياسية الأجنبية والمجازر، وتحقيق برنامج التغيير، سيكون أرضية للتوحيد ولإيجاد ظروف طبقة وسطى حرة.

صحيفة اخبار الخليج
19 مارس 2010