المنشور

مجلس التعاون ودروس اغتيال المبحوح

بعدما ظلت جريمة اغتيال القيادي في حركة حماس الشهيد محمود المبحوح على ايدي عناصر من “الموساد” الاسرائيلي تتصدر عناوين الاخبار في وسائل الاعلام العربية والعالمية كلما كشفت شرطة دبي النقاب عن فصل جديد من فصول عملية الاغتيال التي تثبت على نحو قاطع ودامغ تورط جهاز الاستخبارات المذكور في تلك الجريمة النكراء واستمر كشف هذه الفصول المثيرة تباعاً على مدى نحو شهر، بدا اهتمام وسائل الاعلام العربية والعالمية يتضاءل حول هذه القضية تدريجيا، واخذت أضواؤها تتوارى عن أنظار الرأي العام العالمي بوجه عام والرأي العام العربي بشكل خاص شيئاً فشيئاً، هذا على الرغم من ان ما كشفه حتى الآن رئيس شرطة دبي الفريق ضاحي خلفان من اوراق ومستندات ومستمسكات واسانيد حول تورط “الموساد” الذي لم ينكر بدوره بصورة قاطعة ارتكابه الجريمة تكفي حتى بربعها فقط لادانة اسرائيل على نحو دامغ قاطع، ويصلح ربع ما كشفه لفتح ملف اتهام متكامل دسم ثري بالمعلومات والبراهين والدلالات التي تتيح حق رفع دعوى دولية ضد اسرائيل ليس من قبل دولة الامارات العربية المتحدة فحسب باعتبارها الدولة التي ارتكبت فوق اراضيها وضد سيادتها الوطنية تلك الجريمة، بل من قبل الدول الاوروبية الصديقة لاسرائيل وهي كل من بريطانيا وايرلندا وفرنسا وألمانيا التي امعنت اسرائيل بكل استخفاف بتزوير عدد من جوازات سفر رعاياها ضاربة بعرض الحائط هيبة هذه الدول وكرامتها وسيادتها، وهذه الدول بدورها وبعدما ابدت على استحياء ممزوج بشيء من الحرج شيئاً من الامتعاض من التصرف الاسرائيلي هي الاخرى توارى “امتعاضها” الى الخلف ولم يتطور ولو إلى احتجاج قوي رادع يحفظ هيبة وكرامة كل منها، وسرعان ما عادت المياه إلى مجاريها في علاقاتها مع اسرائيل وتعاملت مع ما حدث كأنه سحابة صيف عابرة.
لذا وبناء على كل ما تقدم هل من المستغرب بعدئذ اذا امعنت اسرائيل في سياساتها العنصرية والتهويدية الاستيطانية بحق العرب في القدس الشرقية مادامت قد امنت ليس العقوبات الدولية فحسب، بل الادهى من ذلك مادام الفلسطينيون والعرب يمعنون في مكافأتها باعطائها الفرصة تلو الفرصة باعلانهم استمرار المفاوضات وابقاء اليد العربية ممدودة مهما اوغلت اسرائيل أو تمادت في اهانتهم واذلالهم فاقدين امكانية التلويح بأي بديل آخر من اوراق الضغط التي يملكونها سواء على اسرائيل ام حليفتها الدولية الولايات المتحدة؟
ثم مادام كل هذين الدلال والاستخذاء الفلسطينيين والعربيين الرسميين اللذين يعطيان لها حتى وصل الأمر الى درجة غير مسبوقة من الذل والهوان بأن تمنح فرصة 4 أشهر اضافية لاثبات جديتها في استئناف مفاوضات السلام مع الفلسطينيين كما يأتي اعلان هذا الموقف من قبل وزراء الخارجية العرب في ذروة الحرب الاعلامية الشجاعة التي شنها الفريق ضاحي خلفان مما يشكل طعنة عربية رسمية غادرة مؤسفة في ظهر الشعب العربي الذي يتابع من الخليج إلى المحيط باعجاب يستعيد شيئاً من الكرامة العربية ولو كلاميا على جرائم اسرائيل لاستباحتها عمليات اغتيال ليس المناضلين الفلسطينيين الذين تتيح لهم الشرعية الدولية حق مقاومة المحتل لاراضي وطنهم فحسب بل لانتهاكها الفظ قوانين وسيادة دول لارتكابها جرائم الاغتيال على اراضيها، فهل من عجب بعدئذ اذا ما امعنت بكل وقاحة في اعلان مخططها الاستيطاني اثناء زيارة نائب الرئيس الامريكي جو بايدن لإسرائيل؟
والآن فإن الخشية كل الخشية من ان يحفظ ملف هذه القضية كأنها قيدت ضد “مجهول”، رغم كل ما كشفته دبي من ادلة دامغة تفضح على نحو قاطع تورط “الموساد” الاسرائيلي. لكن تخطئ الدول العربية بوجه عام والدول الخليجية بوجه خاص اذا ما توهمت ان اسرائيل ستتعظ من دروس هذه العملية التي ارتكبها جهازها الاستخباري “الموساد” بعد انكشاف وفضح فصولها بالكامل بحيث إن اسرائيل لن تقدم بناء على هذا الفضح على أي عملية من هذا القبيل مستقبلاً، وانها بالتالي ستحرص على فتح صفحة تطبيعية جديدة على قاعدة “عفا الله عما سلف” مع دول التطبيع العربية على اختلاف درجات ومستويات هذا التطبيع.
على العكس من ذلك فإنها اذا خرجت من هذه العملية قوية منتصرة من دون ان تهتز لها شعرة واحدة فستتمادى في ارتكاب المزيد من هذه العمليات الاجرامية في أي دولة من دول العالم وما عملية دبي الا عملية واحدة خلت من قبلها عشرات العمليات المماثلة في الدول العربية وغيرها.
فهل يا ترى ستصمت دول مجلس التعاون وتعود حليمة إلى عادتها القديمة باستمرار قبول التطبيع سرا او علنية مع العدو الاسرائيلي وبما يشكل ذلك أكبر اهانة واحتقار لكرامة دول المجلس؟
ان دول مجلس التعاون تخطئ اذا ما توهمت بأن أي عملية جديدة للموساد على اراضي أي منها سيكون هدفها دقيقا وناجحا في التصويب نحو عنصر فلسطيني مستهدف، فكم من العمليات الاستخباراتية اخطأت الهدف لتصيب مواطنين ابرياء او حتى رموزا من الدولة! لنتذكر هنا الوزير الاماراتي الشهيد سيف غباش الذي راح ضحية عملية استخباراتية عربية كانت تستهدف وزير الخارجية السوري الاسبق عبدالحليم خدام برصاصة طائشة.
واذ تشكل مثل هذه العمليات تهديدا فعليا للأمن القومي الخليجي العربي وتهدد سلامة دول الخليج وسلامة مواطنيها وقياداتها الرسمية فهل من منطق العقل والكرامة ان تنفرد بعد اليوم دولة خليجية او اكثر بمواصلة خطوات التطبيع مع العدو الاسرائيلي ارضاء او استجابة للحليف الامريكي؟

صحيفة اخبار الخليج
18 مارس 2010