المنشور

مجتمع مدني أم حركات اجتماعية؟

لا نعرف إلى أي مقدار يمكن أن نصف الحركات الاجتماعية الواسعة في عالمنا العربي، التي تبرز على شكل تيارات دينية أو مذهبية، بأنها تشكل مجتمعا مدنيا. هل يجوز اعتبار حركات واسعة، فضفاضة، خالية من الضوابط والقواعد المؤسساتية، التي تتحرك بإرادة مرشد روحي أو زعيم قبيلة أو عشيرة بأنها داخلة في خانة ما يطلق عليه في الغرب المجتمع المدني؟
فيما نحن نعلم أن المجتمع المدني هو في المقام الأول مؤسسات ومنظمات وجمعيات وهيئات مستقلة عن الدولة، ومستقلة أيضا عن الأطر التقليدية القائمة في المجتمع، أو هكذا يجب أن تكون. ولأنها كذلك، أو لأنها يجب أن تكون كذلك، فعلينا اشتراط صفة الحداثة فيها، بمعنى أن عليها أن تعبر عن أفق مستقبلي، لا أن تكون خاضعة للكوابح الاجتماعية والسياسية القائمة في مجتمعاتنا والتي تعيق فكرة الحداثة أو ترفضها جملة وتفصيلا.
هذا السؤال يرد على الخاطر عند رصد مظاهر الحراك السياسي الاجتماعي في البلدان العربية الذي لم تعد الأحزاب التي بشرت بفكرة الحداثة أو رفعت رايتها هي المؤثرة والفاعلة فيه، وان دورها قد تراجع كثيرا لمصلحة قوى أخرى لا يمكن أن نصفها بأنها جديدة، رغم حداثة انخراطها في مثل هذا النوع من النشاط السياسي. انه على الأرجح نوع من التقليدية الجديدة، أو التقليدية، منبعثة في ظروف اليوم، حاملة معها خصائص هذه الظروف.
وإذا ما استعرنا مفهوم المجتمع المدني الآتي من سياقات غربية في الأساس، وحاولنا إدخال مظاهر الحراك السياسي الاجتماعي في بلداننا في إطاره، فإننا سنرى انه يستبعد قطاعات اجتماعية مهمة، وهناك من يقترح مفهوم الحركات الاجتماعية ليكون بديلا عن مفهوم المجتمع المدني، ذلك انه يعطي توصيفا أدق وأشمل للقوى الناشطة حاليا، والتي يرى البعض أنها حركات قابلة للانحسار فيما لو جرى تنفيذ بعض مطالبها.
وأنها يمكن أن تفسح في المجال لبنى المجتمع المدني، في صورة مؤسسات واتحادات تعبر عن القوى العصرية، ولكن ببناء ديمقراطي يتجاوز الصور المسخ التي ظهرت عليها مثل هذه الاتحادات، التي كانت الأجهزة في الأنظمة العربية الشمولية تقيمها للوصاية على القطاعات الجماهيرية مثل النساء والطلاب والعمال والصحافيين وسواها.
ويبدو مأزق بعض الحركات الاجتماعية الناشطة حاليا مأزقا حادا، نتيجة للتناقض بين جدية وجذرية المطالب المعيشية التي تفرضها طبيعة الفئات الواسعة من السكان المنخرطين فيها، وبين «محافظة» وتقليدية التوجهات التي يدفع قادة هذه الحركات باتجاهها، الذين يريدون تصميم مستقبل آخر مختلف، فيما يشبه ردة الفعل القوية على ما أتى به التحديث العشوائي لمجتمعاتنا، والذي زعزع البنى التقليدية وأفقد رموز هذه البنى مكانتهم ودورهم، حيث يسعون جاهدين لاستعادتهما، متكئين في ذلك على القاعدة الاجتماعية الواسعة التي تلتحق بهم في الظرف الراهن ومستخدمين إياها وقودا لبلوغ هذا الهدف.
من شأن نقاش كهذا حول المعني بمفهوم المجتمع المدني وأشكال تجليه في بلداننا أن يفتح آفاقا واسعة لدراسة وتحليل طبيعة تلك القوى والعوامل المؤثرة في التطور السياسي الاجتماعي الراهن في مجتمعاتنا العربية.
 
صحيفة الايام
17 مارس 2010