المنشور

المحرمات الهامشية والأصل المنسي

لكل عصر عربي إسلامي مستوياته، فالعصر السابق، عصر تشكل القبائل والدويلات الإسلامية، بعد زوال حكم الخلفاء الراشدين، كانت المعايير فيه هي الحلال والحرام، مقاربة مع مستوى معين لذلك الزمن ومستوياته الفكرية، وقطعاً للجذور النضالية السابقة التي تكرست في عصر المسلمين الأوائل، الذين كرسوا حكم الأغلبية العامة، وجعلوا الفوائض الإقتصادية موزعة على الناس، فكانت التحريمات جزءًا من هذا البناء الاجتماعي، لكن هذا الأساس تم إلغاؤه بسيطرةِ الأسرِ الغنية، التي صار تاريخُها مضاداً للقيم الإسلامية، ولكن الفقهاء التابعين للسلطات واصلوا الفقه السابق نفسه بعد أن أُلغيتْ جذورهُ!
فجعلوا مسائلَ الحلال والحرام مقطوعةً عن جذورها ومعلقة في فضاءٍ مجردٍ يحكمهُ السلاطينُ وكبارُ الأغنياء المتنفذين الذين أحدثوا نهضات مع هذا، ولكن الأساسَ الاجتماعي كان فاسداً. ثم أوصلوا الأممَ الإسلامية إلى ما وصلت إليه من تدهورٍ وتبعية ومازال تلامذتهم يريدون مواصلة المشوار الشكلاني وليس قراءة المضامين وتجديد الروح!
لقد أُلغي الأساسُ القرآني الدستوري لهذه المرحلة المديدة بعدمِ جوازِ حكم الأغنياء للمسلمين، ولم يستطعْ شيوخ الدين مصارعةَ هذا التحول طويلاً، فانضموا إليه واستفادوا من خيراته، وتوجهوا للأحكام الفقهية الجزئية التي لا تعارضُ سيادةَ الأغنياءِ وسطوتهم، مثل منع الخمر والميسر والربا، التي تطبقُ على ناس دون ناس، وعاشوا على فتاتِ هذه الدولِ بكلِ ألوانِها المذهبية ونفاقِها السياسي، خداعاً لعامةِ المسلمين بكونهم المحافظين على الملة ونقائها.
وكان لتلك الأحكام في زمن الدعوة ثم السلطة النبوية ظروف موضوعية، فكان زمنُ التأسيس يتطلب انضباطاً وابتعاداً عن الفوضى التي يسببها الأدمان خاصة في مركز الدعوة، وكذلك هدماً لسيطرة المرابين اليهود خاصة على مركز الخلافة الوليدة، ثم تغيرت الظروف، وعلت الأممُ الإسلامية بفضل التطور السياسي الحر، وشاعتْ الحرياتُ المختلفة الشخصية، وازدهرتْ الأعمالُ المصرفية والعيش الفرح، لكن انقلب الهيكل الأساسي للحكم بعد أن سادتْ الأسرُ وجعلتْ المواردَ بساتين لها وأفلست الميزانيات.
والغريب أنهم في كل حالة أزمة اقتصادية يلتفتون إلى هذه (المحرمات) ويتعكزون عليها للمزيد من الحصول على الأموال والتضييق على الحريات!
كان التركيزُ في هذه الأحكام الجزئية غير مضرٍ كثيراً في زمن النهضة الإسلامية في العصر العباسي خاصةً، لأن المسلمين كانوا سادة العصر، وكانوا النهضويين البارزين في العالم، لكن هذه الأحكام في زمن التدهور لعبتْ دوراً كبيراً في عرقلة تطور الأمم الإسلامية، وتخلف مدنها وتعميق الحروب في صفوفها، لأنها تركز في قشور القضايا والعادات وليس في التوجه للعلوم والصناعات والحريات التي تجعل المسلمين يواصلون السيادة والتقدم.
ومنذ ذلك الوقت صعدت القراءاتُ السطحية المتعصبة للإسلام، مركزةً في الأشكالِ المقطوعة السياق، وفي الممنوعات وكأن الهجوم على الممنوعات هو الحل لأزمة جذرية تغلغلت في الأمم الإسلامية!
فالأحكامُ الفقهية الجزئية المقطوعة السياق بالهيكل العام المنشود المنصوص عليه في القرآن، ظاهرُها تطبيقُ الأحكام وباطنها خدمة الحكام وخاصة المتخلفين منهم. ولكن من دون السياق الكلي للأحكام، تغدو هذه خطرة، لأن السياسيين يستخدمونها لفرض أحكام استبدادية، وهيمنة على العامة، وبعدها يظهر مزايدون آخرون يغالون أكثر فأكثر، ويظهرون خاصةً في القرى والبوادي التي يسودُها التخلفُ والقراءات السطحية للإسلام، فيفرضون إراداتهم بالقوة الجبرية وبالسيوف مما يدمر النهضات الإسلامية في العديد من الدول.
في العصر الحديث صارت معاييرُ المواطنة هي التي تحكم، فالمقياس هو مدى مواطنية الفرد في هذه الدول العربية الإسلامية، ومدى مساهمته في تحررها وتقدمها والدفاع عنها، وماعدا ذلك من مسائل هي أمورٌ ثانوية وقضايا شخصية تعود للمؤمنين وقراءاتهم للدين.
ومعايير الحريات للأسف جاءتْ من خارج هذه الأمم في زمن الحداثة، وفُرضت عليها، وتبنتها نضالاتٌ شعبية تجاوزتْ الأنظمةَ القديمة البائدة وحركاتها التقليدية التي عاشت في ثقافة النصوص، ولكنها كذلك تعود إلى جذور الأمة العربية وتكونها في عهد السلف غير المرئي في وعي الحركات الشعبية الجديدة المُقلدة للغرب ولنهضتهِ المركزية في العالم.

صحيفة اخبار الخليج
16 مارس 2010