المنشور

الجراخيات السياسية!

لا أحد يعرف من جيلنا كيف تبدأ الألعاب النارية في شهر رمضان المبارك، ومن الذي يبدأ بها أولا في الأحياء، فهي تنطلق تلقائيا دون أن يكون هناك أي قرار رسمي بإطلاقها وتوقيتها، ولكن الذاكرة الشعبية وحدها تخرج بمخيلتها عن المألوف، فيبدأ صبية صغار بلعبة الجراخيات، والتي سرعان ما تنتشر في كل أرجاء الحي، فيفرح التجار البهرة لكون بضاعتهم تنتظر موسمها المفضل.
ورغم عدم ارتياح الحكومة للشرر المتطاير خوفا على بيوت السعف من الحريق أو يتم توظيف المسموح في عالم الممنوع، لهذا كثيرا ما سعت السلطات بالتحذير وبمعاقبة من يكسر تلك التعليمات، بين شد السلطات الرسمية ومحاذير الكبار وخوف بيوت السعف، تظل الجراخيات تفرقع بين أيدي «الصبية العابثين» وهم يفرحون بلعبة قد تبدو مريحة ومحببة، غير انها قد تنتج حريقا هائلا في بيوت الفقراء المستكينين لرمضان والأعياد وفرحها المنتظر.
بعد انتهاء رمضان يدخل الصغار والمراهقون بفرح العيد فنشهد عودة الجراخيات بقوة ثم تختفي نهائيا من ساحات الأحياء والقرى. اليوم تذكرني اللعبة والجراخيات بمجموعة من الساسة والمثقفين وأصحاب الأقلام الذهبية والاسفنجية، حينما يضخون للشارع كلاما مثل تلك العملات الكاسدة والبضائع الأكثر كسادا في السوق السياسية المضحكة، فهي مضحكة لأنها تأتي في موسم الاستعداد للانتخابات، والترويج الدعائي لوطنية بعض النواب ولمزايدة بعض الجمعيات، فيصبح في النهاية الشعب هو «المراقب العام»، وصاحب سلطته وقراره المهدور والمسلوب في مرحلة ما قبل صناديق الاقتراع، فما تفعله الجراخيات السياسية حاليا، هي محاولة تزييف الوعي لدى الناخب بحقائق الأمور وكواليس الصفقات والمساومات والتكتيكات المكشوفة والخفية، إذ بدا الصوت، صوت الجراخيات أعلى من مدى وحجم مسافة الضوء والإضاءة التي تخلقه في فضاء المكان، فتلك الفرقعات هي المثيرة بفعل صوتها المدوي بينما يظل الشعاع محدودا للغاية، وإذا ما كانت حوله إنارات أوسع لا يمكننا حتى رؤية تلك الشرارات المتطايرة، بينما بدت لنا في أحياء الأمس المعتمة كتلة من الإضاءة الجميلة ونحن نطاردها من مكان لمكان. جراخياتنا السياسية بدت منذ أسابيع، وكنت ألهث لمعرفة الدوافع لذلك الضجيج، حيث الواقع والحقيقة اقل بكثير من الأصوات والأبواق والجراخيات الضائعة في المكان، إذ دخلنا في جولة الجراخيات مع تقرير هيومن وتش حول مسألة التعذيب، وبدلا من التعامل مع التقرير بحنكة وهدوء وجدنا الباحثين عن فشلهم النيابي هم أول من تدافع للاحتجاج المقبول وغير العقلاني أيضا، فيما كان الخطاب الرسمي أكثر هدوءا في تعامله مع منطق التقرير فسمعنا رأيا مسؤولا لصوت الدولة بينما مجتمعنا المدني حاول القفز على الحقائق عن طريق قذف الجراخيات علينا لإقناعنا بتعسف ولي الأذرع بقوة كما يقولون. ثم دخلنا بعدها ببرهة مع مؤتمر الوفاق، وإذا بالجراخيات تأتي من داخل القاعة ومن أصوات وأقلام كتابية غريبة وعجيبة، فنحاول مسك الخيوط فلا نجد أمامنا إلا الظلام الدامس لحقيقة مغيبة، جمل طنانة وأصوات احتجاجية لا تقدم ولا تخدم الهدوء السلمي، بقدر ما تدفع في الاتجاه المعاكس والنقيض، فليس كل الجراخيات السياسية التي انطلقت نجحت في إقناع جمهور محايد وهادئ ويتفرج على حلبة «الجراخيات».
وكان واضحا غاية يعقوب وشعار المعنى في قلب الشاعر، لكن الشاعر مختلف عن الشارع، فابتعد الثاني عن صوت الأول لكون صوت الشاعر كان ضخما وأكثر امتدادا من الواقع ومساحته السياسية، فماذا كان رجل الشارع يردد في كل الأمكنة «هذي دعايات انتخابية معروفة!» بكل هذه البساطة حمل الناس ردودهم على تلك الجراخيات، ولو كلف أصحاب الاستبيانات أنفسهم بأسئلة بسيطة لربما وجدوا جوابا شافيا على تلك الجراخيات العجيبة المصنوعة محليا، إذ ما عاد تجار البهرة يعرفون ما هي طبيعة الجراخيات الجديدة، التي انتشرت في الأحياء فجأة فليس الموسم موسم رمضان ولا الأعياد، ولكنهم اكتشفوا ان في البحرين هناك مواسم أخرى اسمها مواسم انتخابات البلدية والمجلس النيابي، والجميع بدأ يعد جراخياته للناس، لعله يذكّرهم بحضوره ووجوده فمقعد البرلمان الوثير وامتيازاته صارت «حالة سياسية مرضية» لدى نمط من النواب.
وفيما نحن منشغلون بجراخيات الوفاق وما نتج عنها من تداعيات، وجدنا أنفسنا ندخل في لعبة جراخيات السفارة البريطانية وسفيرها، هناك قنوات رسمية للمعالجة وهناك شخصيات منطقية وعاقلة وتدرك مصالح البلدان والشعوب وهناك شخصيات مولعة بحرق البخور والجراخيـات الانتخابية.
وفي الوقت الذي كانت تتحرك جراخيات السفير البريطاني ونظرائه ومناهضيه نحو الهدوء التدريجي، فإذا بنا نشهد فصلا نيابيا وجلسة مدوية حول الفساد والخمور والتحريم، حتى كدنا نشعر ان البحرين تدخل مرحلة انقلاب كوني، ولكن مع هدوء العاصفة الطارئة من وراء قاعة البرلمان نكتشف ان الأصوات العالية تود أن تبعث برسالتها للجمهور الذي انتخبها، ووعدته بالكثير ولكنها لم تنجز قيد أنملة في مشروع أو قانون هام يحقق ولو جزء من برنامجه، غير تلك الجمل المكرورة والدعوة للصحوة الأخلاقية!! حتى صارت مسألة السياحة هي الحمار الذي يجلد كل يوم. النائب الهمام يشعر انه ربما لن ينجح في الدورة الانتخابية القادمة، ولهذا عليه أن يقول ها أنا دافعت، وبرأت نفسي، فإذا لم يتحقق ذلك، فانا أنجزت وعودي الفاشلة! دخل المجلس فقط من اجل محاربة الخمور، وكأن موضوع الشعب عندهم مجرد نكتة سياسية في الانتخابات ياللعجب في نوابنا؟!! لهذا كان رد فعل الناس إزاء جراخيات التحريم انها دعاية انتخابية.
 
صحيفة الايام
16 مارس 2010