المنشور

الإصلاح الإداري..


نشاطر د. هاشم الباش وهو الخبير في الشأن الإداري فيما ذهب إليه في مقالة له بهذه الجريدة بأن فعالية الإدارة أصبحت قلق المستقبل وباتت هماً جديداً تفرزه معادلة متطلبات التغيير ونؤيد دعوته العناية بهذا الهم وإعطاءه ثقلاً في رؤى التغيير .
 
هي دعوة في محلها دون شك .. وسبق أن أكدنا بأن إصلاح الإدارة يتطلب جهوداً استثنائية خاصة في ظل ما هو معلوم من مقاومة منظمة تمارسها البيروقراطية لمنع أي عملية إصلاحية من أخذ أبعادها حتى لا تشكل حالة نوعية جديدة كانت البلاد ولا تزال تحتاج إليها لتعزيز توجهاتها المستقبلية لاسيما بعد أن باتت هناك رؤية مستقبلية تتبنى ضمن محاورها إدارة حكومية فاعلة .
 
نعلم جيداً بأن الإدارة ستبقى تمثل عنق الزجاجة في الجهود التنموية وجهود التطوير الاقتصادية التي تسعى إليها الرؤية، وأنه من العبث التحدث عن تنمية حقيقية دون إدارة فاعلة.. كما نعلم أن الإدارة التي وجدت لخدمة الناس من موقع الدولة أصبحت في حاجة ضاغطة لاعتماد ثقافة جديدة في العمل والإنتاج والإنجاز ، ثقافة تعتبر الإدارة أداة للخدمة العامة وخدمة الجمهور لا موقعاً لممارسة السلطة والنفوذ والتنفيع والفساد ، ثقافة تحترم القانون وتحاسب كل من يخالفه أو يتجاوزه ، وتضع حداً لتعارض المصالح ولكل التجاوزات التي نحسب بأن تقارير ديوان الرقابة المالية لا تكشف إلا جزءاً منها .
 
نعلم جيداً أيضاً بأن نهوض وإصلاح حال الإدارة هو شرط لتحقيق النهضة الاقتصادية والتنموية التي تنشدها رؤية البحرين المستقبلية ولعله من المناسب أن نتذكر ونذكر بمشروع ديوان الرقابة الإدارية الذي نص عليه الميثاق الوطني واصدر جلالة الملك أمراً بإنشائه ، حيث بات لازماً على المعنيين بحياكة هذا المشروع تسريع وتيرة تأسيسه كخطوة في مسيرة الألف ميل في طريق جعل الخدمة العامة فاعلة وأكثر إنتاجاً وأفضل أداء ، إدارة عامة حكيمة ومسؤولة وتتمتع بالشفافية وتتقبل المساءلة ، وتحمي وتصون المال العام وتكسب ثقة الناس وتعاملهم باحترام واهتمام ولديها رؤية ومنهاج عمل يأخذ بعين الاعتبار بأنه لم يعد مقبولاً ولا مجدياً حصر الإصلاح الإداري في عناصر مثل تبسيط الإجراءات أو ميكنة تقديم الخدمات في إطار الحكومة الإليكترونية أو تدريب وتأهيل الموارد البشرية الوطنية، بل يجب أن تتناول جميع تلك العناصر في إطار تلك الرؤية أو الخطة الشاملة التي نأمل أن تتمثل اليوم في رؤية البحرين الاقتصادية والتنموية 2030.
 
ومن هذه الزاوية أصبح ملحاً التركيز على تحويل مفهوم السلطة إلى مفهوم الخدمة في الإدارة الحكومية ، وتحويل منطق التركيز على الإجراءات والروتين إلى منطق التركيز على النتائج، والتحول من مفهوم البرامج العامة الفضفاضة إلى برامج محددة وخاضعة للقياس والتحول من نمط الموازنة الحكومية الحالية ، موازنة اعتمادات ونفقات إلى موازنة للبرامج والأداء والمشاريع القابلة للقياس.
 
وفي سبيل بلوغ ذلك نحسب أنه من الأهمية بمكان أن نقف على مكامن الخلل التي تعتري الإدارة العامة، فربما في ذلك فائدة لأي نوايا حسنة تتبنى الإصلاح الإداري في واحدة من أقدم الإدارات الحكومية بالمنطقة ، ومتى ما اجتهدنا في هذا الخصوص فإنه علينا في البداية أن نقر بأنه ليس أخطر على الإصلاح أكثر من النظرة التي تجعل من الماضي مرجعية ، لأنها في هذه الحالة لن تفهم التقدم إلى الأمام إلا بالعودة إلى الوراء فتسعى عبثاً إلى تحقيق الإصلاح من خلال عقلية لا تؤمن بأن الإدارة الحديثة أصحبت لا تمت بصلة إلى الإدارة القديمة ، وأن من كان ممسكاً بزمام الأمور في إدارات حكومية كثيرة صار غير مؤهل لتولي مسؤولياته بعقلية جديدة وبمفاهيم جديدة وآليات عمل جديدة .
 
إذا تجاوزنا ذلك ، وفي سياق الوقوف على أوجه الخلل ، اعتقد أنه لابد من الإقرار بأننا لازلنا مترددين في وضع الإصلاح الإداري في قلب النقاش السياسي وذلك أمر ينتظره الناس بفارغ الصبر لتحسين الأداء الإداري ومحاربة الهدر ومحاصرة الفساد ووقف اغتيال المقاييس وإهدار المعايير في التعيينات والتصعيد والترقيات وما إلى ذلك من أوجه خلل .
 
ذلك في حد ذاته مشكلة وأخرى تكمن في وجود أجهزة حكومية صارت كل واحدة منها مملكة خاصة للبعض، أو نجد فيها شبكة بينية لعلاقات النسب والمصاهرة فيما بين مسؤولين وعاملين كثر ، وعليه نجد دوراً للحاشيات والبطانات وشلل الأصدقاء ، ناهيك عن دور الطائفية ، ومظاهر البيروقراطية التي تفرز ثغرات وأخطاء تكون البيئة الصالحة للفساد وتخلق صانعين ومستفيدين منه، وأصبحت إدارات وأجهزة رسمية كثيرة عالة على الدولة والناس والاقتصاد تعطل مصالحهم ومعاملاتهم وتعرقل حركة المستثمرين وتزرع في نفوسهم اليأس والإحباط لمصلحة من يخلقون هذه الأجواء أو من يقفون ورائها .
 
ومشكلة حقاً عندما يتسربل مسؤولون كثر بالدوام والشكليات والروتين وتنفيذ الأوامر بصورة آلية أكثر ما يهتمون باقتلاع هذه الثقافة وبناء ثقافة بديلة تعتمد على زرع الأفكار وغرس روح الإنجاز والمبادرة والابتكار وجودة الإنتاج ، أو حينما نجد مسؤولين كثر يسيّرون أجهزة رسمية وهم يتصرفون كسلطة على الناس ولا يتصرفون كمؤسسة في خدمة الناس أو نجد أولئك اليائسون المستسلمون للواقع الذين أصبحوا من دون أن يدروا حلفاء طبيعيين أو مساندين أو داعمين لأوجه الخلل التي تعتري الإدارة ، ونخشى أن ذلك وغيره رغم كل المشاريع المعلنة عن تطوير الإدارة يعني بأننا نساير التطوير والإصلاح في المظهر ، ونماطل ونعترض في الجوهر ، ويكاد يكون معلوماً أن الحديث عن الإصلاح الإداري لا يقع موقعاً حسناً لدى البيروقراطيين الذين يعتبرون أن الحديث عن الإصلاح ينتقص من كفاءتهم ومكانتهم فيلجئون إلى مسايرة الإصلاح في المظهر فيما يمارسون في الجوهر المماطلة والاعتراض ووضع العصي في دواليب أي خطوة إصلاحية إدارية، فهل يتنبه إلى ذلك من يعنيهم أمر إصلاح حال الإدارة ورؤية البحرين الاقتصادية .