المنشور

الصاعد إلى المعرفة

هشام شرابي نموذج للمثقف والمفكر الإنساني متعدد الوجوه والزوايا، الإنسان “الاونيفرسالي”، كما وصفه الشاعر والكاتب التونسي خالد نجار، الذي رسم له صورة بالأبيض والأسود، ليس بالرسم إنما بالكلمات، في “بورتريه” تضمنه الكتاب الذي أصدره “الاتحاد العربي للجمعيات الفلسفية” بعنوان “نقد المجتمع الأبوي – قراءة في أعمال هشام شرابي .نموذج هذا المثقف بات نادرا ليس في العالم العربي وحده، وإنما في الغرب أيضا.
يوم صعد إلى “بسكنتا” الضيعة اللبنانية البعيدة لملاقاة ميخائيل نعيمة كان يعرف ماذا يريد: رؤية فكرية ذات بعد أخلاقي. في أربعينات القرن العشرين كتب نصاً عن الوجودية قبل أن يسمع المثقفون والقراء العرب بهذه التسمية التي سرعان ما غدت موضة في أدب الستينات ومطالع السبعينات من خلال دار ومجلة “الآداب” مع انتشار ترجمات سارتر وكامو.
وسرعان ما وجد شرابي نفسه قريبا من “الحزب القومي السوري الاجتماعي” ومن انطون سعادة شخصياً الذي التفت إلى موهبة وذكاء هذا الشاب الفلسطيني المتقد الذهن. وبعد ذلك بعقود سيقول شرابي عن علاقته بسعادة: “أعادت إليّ ثقتي بنفسي، فقد حررني من ثقافتي الأبوية وكل فكر مسيطر، ومستقبلا من الحزب نفسه ومن أفكاره أيضا.”
اجترح هشام شرابي من اللغة العربية المشدودة إلى معانيها الماضية لغة تقول هذه الحداثة التي تقع خارج عالم العرب. لم يفعل ما فعله كثيرون سواه، لم يرفض الغرب مطلقا ولم يقبله مطلقا، لكنه لم يوفق او يلفق بين هذا وذاك. اختار المغامرة وهو الذي قرأ “نيتشه”، ولما يزل صبياً في مطالع الشباب، ومنه تعلم ان يطرق ما ليس مطروقا، وأن يضع قدميه في المكان المفضي إلى الدروب الجديدة.
لذا لم يكن مصادفة ان يختار “المثقفين العرب والغرب” موضوعا أساسيا يبدأ به عمله الشاق والجاد بحثا عن المعرفة وتأصيلا لها. فعل ما فعله ادوارد سعيد، حمل القضية الفلسطينية إلى الأوساط الأكاديمية والجامعية والإعلامية في الولايات المتحدة، وللرأي العام هناك.
حين سئل بيل كلينتون بعد أن أصبح رئيساً للولايات المتحدة عما إذا كان يعرف القضية الفلسطينية، أجاب: كيف لا أعرفها وهشام شرابي كان أستاذي في جامعة جورجتاون؟!
النقاد الذين حللوا سيرته الذاتية كما كتبها في “الجمر والرماد وصفوها ب “السيرة الفكرية” لأنها تروي ذكريات مثقف عربي وترسم بحس درامي عميق ألوان الصراع القائم بين الفكرة والواقع، بين الحلم والحياة، فكل كائنات الكتاب تتحرك في أرض محروقة هي أشبه ما تكون ب “جحيم” دانتي، حيث لم تبق أمام الراوي سوى الكتابة يلجأ إليها وهو يرى الوطن يتنكب عن أبنائه، والأحلام تذروها الرياح، والموت يسرق أصدقاءه، قبل أن يسرقه.
 
صحيفة الايام
11 مارس 2010