المنشور

أنا والسعدني وعوالي


افتتحت قبل أيام صاحبة السمو الأميرة سبيكة قرينة الملك منتزه عوالي ’ كمكان جديد للاسترخاء والراحة ’ بعد أن قرأنا عن منتزه دوحة عراد ’ والذي لا تزال يد العبث والتخريب تمس مرافقه كل يوم ’ ونجهل الدوافع هل هي ظاهرة تخريب اجتماعي ونهج سلوكي ’’ فاندليزم’’ vandalism له علاقة بالعمر والثقافة أم انه عبث منظم وسلوك سياسي يستهدف عرقلة التحولات الاجتماعية باتجاه التحديث والمعاصرة للبحرين ’ في الألفية الثالثة والمتطلعة نحو المستقبل .

ما أثلج صدري في منتزه عوالي وعراد أو ( ع. ع ) هو إن الأول خاص بموظفيه وعائلاتهم والأخر عام للناس جميعا ’ غير إن الفكرة وجوهرها هو الأهم أن يجد كل شخص مكانا يرتاح فيه بعد عناء اليوم هو وأسرته وأقربائه وأصدقائه ’ فالبحرين في النهاية صغيرة وكل منجز جميل ورائع فيها ’ وبالضرورة ستكون فوائده متعددة .
ما جعل منتزه عوالي مهما بالنسبة لي أمور عدة ’ أهمها إن في عهد الإصلاح السياسي ’ تتجه المؤسسة إلى التعاون بين إدارة بابكو والنقابات والموظفين ’ وصارت مختلفة قياسا بمرحلة ما قبل الإصلاح ’ بل وقياسا ابعد بمرحلة بابكو ’ التي كانت تصنف الموظفين حسب أغلالهم وعبوديتهم كعمال مأجورين أو سادة بيض في موقع أرقى هم أيضا عبيد لرأسمال عالمي .

قد تختلف الأمور كثيرا عن عوالي التي عرفتها وأنا شاب في مقتبل العمر ’ عندما كان علينا أن نزور مرضى من عمال حينما ينامون في مستشفى الشركة ’ كما كنت مولعا بكافتيريا بابكو الذي كان احد الكبار حينا يشتري لنا من هناك فاكتشفت إن هناك سندوتشا مثلثا مقطوعا وملفوفا في ورق شفاف ونظيف بسعر يقارب الثلاثين فلسا ’ إذ لم نر سندوتشات من هذا النوع إلا في مزبلة الحورة ’ حينما تأتي سيارة الجيش من المحرق محملة بزبالة العسكر وطعامهم وملوثاتهم ’ ولكنها في النهاية كانت مفيدة للفقراء وكلابهم ولدفن منطقة بحرية ’ ستكون ذات يوم شارعا للحب أو مدينة الحورة الجديدة ’ التي صارت منطقة فنادق سياحية . فأقول لنفسي لكم عجيب الوقت ان تقف هذه الأبنية الجميلة فوق ركام من زبالة وفئران ورمال وأحجار بيوت هدمت وعالم منسي .

عوالي كانت بالنسبة لجيلنا عالم فردوسي يحلم بالعيش في داخله النخبة الأجنبية ’ حتى وان بدت تلك البيوت بلونها الأخضر الخشبي والمحاطة بأشجار صحراوية باهتة من خضرتها ’ إلا إن تنظيم المدينة وطرقها ونمط العيش فيها بدت زاهية أجمل من المدن العصرية في زمننا . عوالي ما لها والي ’ هكذا كانت الأصوات السياسية تعلن احتجاجها في هتافات التظاهرات على هيمنة الأجنبي ’ على منطقة بدت وكأنها مقاطعة وملكية خاصة ببابكو أشبه بأرض سفارة محمية دبلوماسيا ’ عوالي عالم السينما والأحلام لجيل كامل ’ صارت اليوم في حضن شعبها وأرضها وناسها ’ وسيكبر أبناء هذا الوطن وهم يسمعون عن نشرتها ونجمتها وشعاراتها ’ بل والغريب إن نشرة بابكو هي النشرة الوحيدة التي سمح لنا ضابط السجن بقراءتها عندما قلنا له نريد صحفا وكتبا ومجلات .

هكذا ظلت في ذاكرتنا النجمة الأسبوعية الابنة المدللة لبابكو وصوتها الناطق بالعربية والانجليزية . لم يبق في الذاكرة من زمن بابكو في المخيلة إلا عام 1968 عندما زار البحرين فريق الاسماعيلي المصري للعب ضد منتخبنا الوطني ’ وكنت يومها ضمن الفريق ’ وكان على الاتحاد أن يستضيف في مأدبة عشاء الفريق الضيف ’ وقد أقيم في قاعة بلدية المنامة حفلا لائقا وحارا ’ التقيت فيه محمود السعدني الكاتب المصري الساخر ’ وقد أمطر بنكاته المفتش المصري الغزاوي عندما وجده بثوب وعقال ’ فعندما قدموه للسعدني ’ وكان واقفا بيننا ’ينكت ويتحدث بسخريته ’ فما كان منه إلا وان قال للغزاوي ’’ ’’ هو أنت متنكر ليه ! ’’ فاحمر واصفر وجه الغزاوي مفتشنا المدرسي الكبير . ضمن جولات الفريق الضيف للبحرين زار السعدني عوالي وقارنها بالوضع العام في البحرين ولاحظ الفروقات والامتيازات ’ فكتب مقالا نشر في الأضواء ’ وكان عنوان المقالة ’’ ليتني أموت في عوالي أو ادفن في عوالي (إذا لم تخن الذاكرة ) ’’ وفي نهاية مقالته تمنى أن يدفن هناك لكون المدينة فردوسية ! قياسا بالإحياء الشعبية والقرى المتناثرة .

لم يبق السعدني ولا الغزاوي فقد رحلا من عالمنا ’ ولكن الحكايات ظلت ’ كما ظلت عوالي ’ مكانا تاريخيا من الضروري أن نكتب عنه أقصوصة حب ومعاناة ووطن ’ فرمزية عوالي متعددة ’ فمنها انطلقت الأشياء للبحرين الحديثة ومن شركة بابكو صانعة مدينة عوالي ولدت حياة التقدم والتطور مهما كانت قسوتها الاستعمارية . اليوم منتزه عوالي يتجول فيه أبناء الوطن ويتفقدون أنشطته ’ فهنيئا للنخبة وللطبقة العاملة في هذه الشركة التاريخية . وعندما سأزور المنتزه قريبا ’ سأكتب مقالا بعنوان ’’ ليتني ادفن في منتزه عوالي ’’ .


 
الأيام 9 مارس 2010