المنشور

مرثيةٌ للخلاسيِّ الذي جمعَ أجزاءَ الإنتماءاتِ المتشظّية 2 – 2


معرفتي بمجيد مرهون أو بالأحرى رؤيتي له بعيون طفولية كانت قبل ذلك بسنوات، حين درستُ سنة واحدة في مدرسة القضيبيّة، الصف الرابع ابتدائي سنتي 1959 – 1960 (كان يسمى في ذلك الوقت الثاني ابتدائي) وكان بيت مجيد مقابل المدرسة تقريبا.  كان التلاميذ يعرفون ذلك الخلاسيّ،”مجنون” الموسيقى، المولع بالإيقاعات والأصوات،، حيث كانوا يومِئُون له بالبنان، في الوقت الذي بدأ صيته في الانتشار مع آلته الموسيقية، التي كانت تصدح الأنغام عند الأماسي وهو يجوب حول وأطراف قصر القضيبيّة.. حين انبثقت في الظهور أسطورةُ “عازف السايكسفون” ، ذو الألحان الشجيّة وهو يرنو للأفقِ البعيدِ بين السماءِ الزرقاء وشاطىء البحرِ الذهبيّ !
 
إذا لم تخني الذاكرة..عرّفني مباشرة به إبن عمتي، الذي يكبر”مجيد” بسنوات معدودات، وذي علاقةٍ به، حيث كانا يرجعان سوياً من بابكو (شركة نفط البحرين) – في تلك الفترة – وأنا مازلتُ في المرحلة الابتدائية.. لاحظته: شخصاً مرحاً يكاد يرقص طرباّ، لا يقف عن الحركاتِ المتناغمة، بإيحاءاتٍ جسديّةٍ ودندناتٍ صوتيّة، ولا تفارق البسمة وجهه الأسمر الناعم أبداً .. قال لي إبن العمّة : “إنه مجيد سياه!.. العبقريّ المهووس بالموسيقى،، يعيشها ليلاً ونهاراً، يقتات من هذا الزاد ولا يشبع”!  كان مجيدُ يعرف ويدرك أن رفاقه الأقربون يكنّوه بلقب “سياه”(الأسود).. يتقبل ذلك بطيب الخاطر! حاز على إعجابي ودهشتي حين لم ألحظ ان التندر على لونه قد يزعجه.. يبدو أنه كان قد تعود على هذه المزحة، التي لم تكن – بالطبع – من باب السخرية ! ..هكذا كان الجيلُ الثاني من كوادرِ “الجبهة” يتعايشون بتلقائيّةٍ وطيبةٍ نادرتين، وهم يخلطون الهزلَ بالجدِّ ! .. ونحن الجيلُ اللاّحقِ كنا نتابع دروسَ الحياةِ، تترى على يدِ هؤلاء الأشقياء !
 
جرت الأيام وصار بيننا حب ومودّة استمرت سنين طويلة.. كان يقول لي أحياناً أنه يعزّني لأني أحمل اسم أبيه.. يقوله ببساطة نابعة من القلب،،، لم اقابل إنساناً بهذه العفوية في حياتي ! ،، نعم .. يقول نقّاد الفنّ الكبار أن احدى أهم  خصائص الفنّ الرفيع هي “العفويّة”، وكانت هذه إحدى ذخائرِ مجيدِ العديدة،،، لا تذهبوا أبعد أيها الكتّاب.. يا من تبحثون عن سرّ عبقريةِ مجيد مرهون وملحمةِ حياته الرهينة !
 
مازلت أذكرُ، كما يذكر غيري بالطبع، من سكنة منطقة أرض مصطفى بالقضيبيّة، فيما كانوا نيّماً في صبيحة ذلك اليوم غير الاعتيادي، حين أفاقوا فُجأة من رقادهم على صوت دويّ انفجارٍ صاخب !.. لم نعرف وقتئذٍ ما سبب ذلك الصوت الرهيب. بعد ذلك عرف الناس عندما تجمهروا أمام السيارة المفخّخة، العائدة لأحد مسؤولي الأمن الخاص. لم يعرف أحدٌ في حينه من كان وراء تلك الحادثة إلا بعد سنوات معدودات، عندما اعتُقل مجيدُ،، وبقية القصة معروفة للعموم.
 
سنحت لي، كما سنحت لغيري، فرصة السلام والتحية بعد سنواتٍ طوال، لم أرَ فيها مجيدَ بسبب وجوده في السجن لأكثر من عقدين! وبعد ذلك، على أثر رجوعي من الخارج، رئيته ثُانية.. وقد أصبح عضوا بجمعية المنبر الديمقراطي التقدمي،، باركتُ له العمل السياسيّ العلنيّ في صفوف “التقدمي”، مضيفٌ له، أن ما حدث من تحولات إيجابية في الوطن هي بسب نضالات أمثاله.  قال شيئا لم أدرك كنهَه لحظتئذٍ ! ،، قال بما معناه أن له أمّان اثنتان..أمّه التي ولدته وماتت الآن، والأم الخالدة التي لا تموت !! كم شدّني ان أستفسر أكثر عن هذه الخالدة السّرمديّة ؟!  أجاب : “أنها الجبهة (جتوب)، حزب الكادحين، لا بديل لها.. فهي وُجدت لتبقى !” ولكني أجبته مستدركاً ان ما لدينا الآن جبهة علنيّة، عبارة عن “التقدمي”.. لم يتّفق معي تماماً، منهياً حديثه قائلاّ: ..”ان الأم هي واحدة، لا تتعدّد ولكن تتكاثر من خلال الأبناء والبنين. فشرف عضويتي يذهب أولاً للأصل، للأم .. ثم للفرع، البنت أو الواجهة” !  
 
تحادثنا بعد ذلك مراراً وتكراراً،، في أمورٍ حياتيةٍ عديدةٍ، كلّما سنحت الصُّدفة. وكان آخرها، عندما أُدخِل المستشفى، في المرة قبل الأخيرة.. حيث تركَ المرحومُ – وقتئذٍ- إنطباعاً إنسانياً عميقاً لدى زوجتى، التي كانت ترافقني الزيارة تلك، حين تحدث معها بلهجةِ أهلِ الجنوبِ اللّبنانيّ ! ويا للحسرة.. كانت تلك آخر مرّة نرى فيها وجهَ مجيدِ البشوش!… لم أكن أتصور أن هذهِ الشعلةِ الملتهبةِ .. حياةً رحبةً، مشاعرَ عميقةً، إبداعاً متميزاً وفكراً وقاداً.. ستنطفىء قبل الأوان !  ولكن … هل فعلاً انطفأت ؟!.. أم أنها استقرّت وهّاجةً في ملكوتِ الخلود !!
 


المجدُ  لك  يا مجيدُ