المنشور

متاهة العقل

خاض الإنسان كفاحا مريرا في سبيل تحرير عقله من الخرافة والقيود، لكن حرية العقل لم تؤكد دائما أنها على صواب، لان ما قادت إليه العقلانية في بعض صورها المتطرفة من أهوال يكاد يفوق تلك الأهوال التي عانى منها البشر وهم يناضلون في سبيل حرية العقل.
وإذا كان القرنان الثامن عشر والتاسع عشر قرني المطالبة بالعقلانية منهجا وفلسفة ونسق حياة، فان القرن العشرين قد شهد صورا لسيادة هذه العقلانية وانتصارها خاصة في عقوده الأولى، غير أن البشرية ودعت هذا القرن وهي أميل إلى الكفر بالعقلانية.
وكما في كل الحالات فان تعثر فكرة أو إخفاقها غالبا ما يقود إلى تطرفٍ مضاد، أي إلى نقيضها، وهكذا بدأت مراجعات عديدة تخطئ العقلانية وتدعو لتجاوزها، وتُحملها وزر كل ما عرفته البشرية من مآسٍ.
لكن المشكلة ليست في العقلانية ذاتها، فبدون الاحتكام إلى العقل ستظل البشرية أسيرة الضلالات المختلفة، ولكن المشكلة تكمن في التطبيقات العدوانية لقدرات العقل البشري، وهي قدرات مدهشة، وما تنفك تزيدنا ادهاشاً عن الآفاق التي يمكن أن تلجها.
والأمر لا يُقارب من هذه الزاوية الجافة وحدها، وإنما أيضاً من الجانب الأكثر رهافة المتصل بعلم النفس خاصةً، حين تُطرح على بساط البحث تلك الثنائية التقليدية الحادة بين العقل والنفس، وهي ثنائية أقرب إلى الصراع منها إلى التكامل، لأن النفس لا تُسلم بمنطق العقل بسهولة.
وللباحث العربي سالم القمودي كتاب أسماه: «الإنسان ليس عقلاً»، وهو عنوان يستفز ما استقر في أذهاننا من أن ما يميز الإنسان عن بقية الكائنات هو عقله، فاذا جاء احدهم ليفند هذه الأطروحة فذلك ليس برغبة التقليل من أهمية هذا العقل، وإنما للقول بأنه ليس بالعقل وحده يحيا الإنسان.
وليلفت النظر إلى أن الصراع بين النفس والقلب لا يلبث أن يشتد بين الحين والآخر، خاصة إذا ما كانت النفس قلقة وتتمتع بذكاء حاد متوقد لا يهدأ، مما يزين لها أمر الهروب من قيود أوالانفلات من هديه وحججه وبراهينه، ويوفر لها، فوق ذلك تبريراً لكل سلوك ومخرجاً لكل مأزق.
الحكمة ليست الذكاء، فالحكمة تكمن في السلوك أكثر من تمثلها في المعرفة، لأن الإنسان قد يكبو ويتعثر ضحية طغيان ذكائه على حكمته ورشاده وعلى فعله وسلوكه.
ان بدا مثل هذا النقاش تنظيراً بعيداً عن الواقع، فان الخلل ناجم عن طريقة بسطنا للفكرة، لا عن الفكرة نفسها، لأن كثيراً من مظاهر التردي والخلل والتدهور في حياتنا العربية، بدءا من الثقافة والسلوك اليومي، وصولاً إلى طريقة إدارة الحكم وثيقة الصلة بمثل هذا الأمر.
إن أشكال الجنون التي يعرفها علم النفس جيداً، كجنون العقل وجنون الذكاء وجنون العظمة وجنون الطغيان، وهي أمراض متفشية في ثنايا حياتنا: في السياسة والثقافة والسلوك قادتنا إلى الخراب.
ولا يتصل الأمر بدرجة أعلى من الذكاء، بقدر ما يدور عن نرجسية مَرضية تُبرر لأصحابها، خاصةً حين يكونوا في موقع القرار أو السلطة، اقتراف الجرائم، لأنهم لا يرون في ذلك سوى أداء لواجبٍ مناط بهم، وسيان إن كان هو في قرارة نفسه موقناً من ذلك أم لا، فانه يوظف آلة دعائية معقدة لإقناع الجمهور بصواب ما يفعل.
 
صحيفة الايام
3 مارس 2010