المنشور

عازف السكسفون يقول لكل الأوجاع وداعاً

قبل ثلاثة أيام من الخبر المفجع كنت انظم مكتبتي الموسيقية ’ وكانت ابنتي تساعدني لمعرفة ما في هذه المكتبة من اسطوانات قديمة صارت اليوم في حالة الانتيك فعمرها تجاوز الثلاثين عاما ’ خاصة وانها تذكرني بحقبة الاتحاد السوفيتي وهنغاريا وبلغاريا وبراغ ’ التي كانت تبيعنا أحسن القطع الكلاسيكية بسعر زهيد ’ فكنت احمل في كل سفرة من تلك الدول مجموعة كبيرة لأشهر المؤلفين العالميين. كان من بين المكتبة اسطوانة مجيد البلاستيكية الصغيرة التي أنتجتها ألمانيا الديمقراطية ’ تضامنا مع الموسيقار السجين ’ أو بتعبيرنا السياسي اسطوانة لمانديلا البحرين ’ سألتني ابنتي من هذا يا أبي فقلت لها ’’ انه مجيد مرهون ’كان مع عمك في أول دفعة تتخرج من الصف السادس ابتدائي في مدرسة القضيبية ’ غير انه أيضا رفيقنا الذي كابد السجن ومعاناة الحياة ’ فليس بسيطا يا ابنتي أن تموت أختك بين يديك ’ وتعيشين طفولة البؤس والفقر المعدم وحرمان عاطفة نبيلة لولا عاطفة أم كادحة كرست حياتها من اجل أطفالها . لم يكن مسار حياة مجيد فرحا ورغدا ’ ولكنه كان يصنع الحياة بطريقته ويركض نحو مدن الفرح البعيدة ’ ويفتش عن الجزر الجميلة والأحلام الكبرى ’ كان رومانسيا وثوريا في ذات الوقت ’ كان عاملا وموسيقيا رهفا أيضا ’ ولكنه كان الأكثر من كل ذلك إنسانا مشحونا بطاقة الموسيقى الخفية في داخله . عرفته موسيقيا مجنونا بآلته قبل أن اعرفه مناضلا وألتقيه ’ فقد كان مشاغبا وكوميديا مرحا ’ حتى في فناء المدرسة ’ وعندما يعتلي خشبة المسرح كمونولوجست فانه رائع فقد أضحكنا كثيرا على منولوج مدرس الحساب عندما كان يردد ’’ أما مدرس الحساب يا ليته ما دش من الباب كل يوم يجينا بحاله … ’’ فنضحك من القلب فقد كانت كل المدرسة تعرف ذلك المدرس وحالته ’ وكان الأستاذ عتيق معنيا بتوريط المدرس مع طالبه المشاغب. في اليوم الآخر سيلتقي المدرس بطالبه حانقا ’ وغاضبا وسيقول له لا اعرف لماذا أرسلوك اهلك للمدرسة فأنت جدير بهناك – وكانت هناك هو حي العدامة – مع فرق المدندون ’ وهي الفرق الزنجية التي عزفت أجمل أغاني الغوص والفجري والليوة ’ عزفت معاناة تاريخية طويلة لكل أولئك القادمين من زمن العبودية . كنت هناك بينهم تنشد أجمل أغانيك وموسيقاك ’ فقد كان إنسان هاتيك الأزمنة هو إنسانك الداخلي ’ وكان عليك أن تكافح من اجله ’ فوجدت ان الانتصار لكل الكادحين وزمن المعاناة هو الانتماء لفكر يدافع عن الكادحين ’ فاخترت أن تكون ماركسيا يحمل قلبه بين أصابعه ’ مثلما حمل فكره بين الشبيبة العاملة في بابكو ’ مثلك لا ينساه الوقت ’ ومثلك يبقى في الذاكرة الوطنية والشعبية والموسيقية ’ فقد تركت لنا أعمالك كمجدك ’ وتركت لنا سلمك الموسيقي كسلم أحلامك نحو الآفاق ’ فما قيمة الأشياء إن لم تكن تمجد الإنسان والحياة . كنا نراك في المدرسة تعزف ’ وفي طرقات الحي تعزف ’ وعند سكون الموج ورحيله تغازل البحر وتحلم وأنت تعزف ’ دون أن تغادر أحلامك بيتكم الصغير المعدم . عشت بفرح وغادرتنا بفرح ’ ومن التقاك لم ير فيك إلا ذلك المهووس بالموسيقى وبروح النكتة والمرح ’ فتثير فينا أسئلة الفضول ’ كيف يقاوم هذا الإنسان معاناته ؟ كيف يحمله بين ضلوعه دون كلام ’ وكأنه يقول لنا’ كانت الحياة جميلة رغم آلامها ’ فتحلق روحك كما تحلق موسيقاك ’ فقد جعلت للوطن معنى وحملت له موسيقاك ’ وفتحت لنا ’’ الطريق ’’ منارا بنغماتك فأنت راحل مثل كل الذين رحلوا ’ وأنت مسافر في زمن لا يتوقف ’ ولكنك وحدك هناك في موسيقاك التي تحلق مثل روحك . هناك أناس كثيرون سيسألون عنك ’ فمثلك لم يمض من الحياة عبثا . عشت مناضلا وكنت إنسانا . ها أنت ترحل لتقول لنا الحياة تستحق أن نعيشها مرة واحدة ’ أخيرا ’ عازف السكسفون يقول لكل الأوجاع وداعا.

صحيفة الايام
2 مارس 2010