المنشور

إيقاظ الكلمات النائمة

كان الأرجنتيني بورخيس، الأعمى شأنه شأن عميد أدبنا العربي الدكتور طه حسين، لا يستطيع لفقدانه البصر أن يقرأ، لكنه ظل يقتني الكتب ويملأ بها منزله. وفي إحدى المرات تم إهداء بورخيس موسوعة كبيرة تقع في عشرين مجلداً، ورغم أنه كان يدرك أن عينيه لن تقعا أبداً على صفحات هذه المجلدات فإنه أحس بوجود هذا المؤلف في بيته، بل شكل وجوده مصدر سعادته. لكن الكلمات النائمة في الكتاب يجب إيقاظها، والقارئ هو من يقوم بفعل الإيقاظ هذا، لذا فإن قيام الفرد بأخذ الكتاب وفتحه هو بحد ذاته ظاهرة جمالية محققة.
الكتاب، رغم ألفة وجوده في البيت قد لا يعدو كونه مجموعة أوراق بين دفتين. ثمة وصف جميل منسوب لأحد الكتاب الأجانب مفاده أن خزانة الكتب تشبه غرفة سحرية تقيم بها أفضل أرواح البشرية وأحسن عقولها وأقواها، لكن هذه الأرواح والعقول تلوذ إلى الصمت بين دفتي الكتاب، على القارئ أن يخرجها عن صمتها ويستدرجها للحديث، بأن يحاورها في ما تقول، فإن لم يفعل القارئ ذلك ظلت تلك العقول والأرواح صامتة، وربما هجعت في النوم العميق إذا طال أمد انتظارها، دون أن تمتد أيادي أحدنا نحو الرفوف التي تسكن فيها، ويدعوها للكلام معه.
لكن العلاقة مع الكتاب لا تقف عند حدود استدراج كاتبه إلى الكلام فحسب، وإنما يمكن أن تنشأ بيننا وبين هذا الكتاب صحبة وصداقة. أجمل وأعمق الصداقات هي مع الكتب. بوسع كل منا، طالما وجد عنده حد أدنى من الاهتمام بالقراءة، أن يسمي كتاباً واحداً على الأقل يعده كتاباً صديقاً، احدث في عقله ووجدانه من الأثر ما تحدثه رفقة طويلة مع صديق تعلمنا منه شيئاً أو أشياء.
لكننا لا نجد المتسع الكافي من الوقت لنقرأ كل ما نقتنيه من كتب، وأحياناً كثيرة نجد الوقت ولكننا لا نجد المزاد ولا الرغبة في القراءة، أننا نميل للاسترخاء والكسل أكثر من ميلنا للقراءة التي تتطلب قدراً لا بد منه من التركيز والجهد، بيد أننا لا نكف على اقتناء الكتب رغم ذلك.
ما الذي يحدونا لفعل ذلك، أهي ذاتها تلك الأحاسيس بالإلفة والأمان التي كان بورخيس فاقد البصر يشعر بها وهو “يرى” الكتب تملأ بيته. الأرجح أن في الأمر شيئاً من هذا، ولكنه لا يقدم التفسير الكامل للموضوع، فنحن إذ نفعل ذلك فإننا نعيش على أمل أننا سنجد الوقت للقراءة، أن أيادينا ستمتد يوماً لهذه الكتب وندعو كتابها الذين أخذهم النعاس للتكلم إلينا، بل لعلنا نعود إلى هذه الكتب مرة ومثنى وثلاثاً.
الكتاب نفسه إذ نقرأه في مقتبل العمر لا يعود هو نفسه حين نقرأه في منتصف العمر، ولا يعود كما كان في الحالين السابقين لو عدنا إليه ونحن في خريف العمر. لقد امتلكنا من عدة المعرفة والخبرة والتجربة والذائقة ما يجعل الكتاب نفسه “يتطور” ونحن نتلقى أفكاره كناية عن أننا لا نعود أنفسنا في كل مرحلة عمرية. لقد تغيرنا، وطريقة تلقينا لكتاب قرأناه قد تكون معياراً لقياس ما الذي فعلته الحياة بنا.
 
صحيفة الايام
13 نوفمبر 2010