المنشور

الطيب صالح في البحرين

عن ما عُرف به السودانيون من تسامح يروي الراحل الكبير الطيب صالح حكاية معبرة فحواها أن السيد عبدالرحمن المهدي راعي طائفة الأنصار وجد الصادق المهدي رئيس الحكومة السودانية الأسبق, كان رجلا شهما كريما حتى مع خصومه في السياسة، ومن نبله انه كان يحترم كثيرا الشهيد عبد الخالق محجوب زعيم الحزب الشيوعي السوداني ويعامله كابنه، وحدث أن زار السودان وفد شيوعي سوفياتي، وسمع السيد المهدي بأمر هذا الوفد فاستدعى عبدالخالق محجوب، وسأله عن الأمر واستفسر عن الكيفية التي سيُكرم بها الشيوعيون السودانيون ضيوفهم، فأجابه عبدالخالق محجوب بأنهم لم يفكروا في موضوع الضيافة وقال انه على الأرجح سوف يقيمون لهم حفلة شاي.
فكان رد عبدالرحمن المهدي أن هذا لا يجوز، وقال لعبدالخالق محجوب نحن كسودانيين يهمنا أن يقول السوفيات أن الشيوعيين السودانيين أناس كرماء وأفاضل، لذلك قررت أن أوجه لكم ولضيوفكم دعوة لتناول العشاء في منزلي.
الطيب صالح الذي لم يكن حزبياً قط، ولو انه قرر أن يكون كذلك لاختار الحزب الوطني الاتحادي، قال انه كان معجبا بعبدالخالق محجوب كسوداني نابغة وبفاطمة احمد ابراهيم كإنسانة، وهي القائدة النسوية الشهيرة وأرملة الشهيد الشفيع أحمد الشيخ، وأول امرأة سودانية تفوز بمقعد في البرلمان.
وأمر يثير الغبطة أن يحتضن وطننا البحرين ملتقى الطيب صالح الذي أقيم على مدار أمسيات ثلاث بتنظيم من النادي السوداني بمملكة البحرين، ومركز عبدالرحمن كانو الثقافي، ففي ذلك تعبير عن البعد العربي الأصيل في تكوين الثقافة في هذا البلد، وفيه أيضاً تعبير عن مكانة الطيب صالح في وجدان المبدعين والمثقفين في البحرين وفي الخليج، هو الذي عرف هذه المنطقة جيداً، حيث عاش في إحدى مدنها، الدوحة عاصمة قطر.
وكان لي شرف المشاركة في هذا الملتقى بالتعقيب على ورقة الأستاذ طلحة جبريل عن الطيب صالح في كتابة المقال الصحافي، حيث نقل الطيب مهاراته في السرد إلى تجربته في كتابة المقال الصحافي، فحمل روحه المبدعة، ولم ينتقص منها وإنما أثراها، إذا ما أدركنا أن المقالة الصحافية، في نماذجها الراقية، هي الأخرى جنس إبداعي شأنه شأن القصة والرواية والمسرحية.
واللغة الأنيقة، المثقفة، وحتى المُفكرة للرجل، القائمة على العناية بجمال اللغة وسلامتها وتكثيفها، لم تمنعه من الانخراط الواعي والشجاع في مناقشة هموم الوطن، وأحسنت الورقة باختيار مقال «من أين جاء هؤلاء الناس»، نموذجاً لذلك، التي تضمنت تلك الفقرة التي يقول عنها الأستاذ طلحة بأنها دخلت تاريخ المقالة السياسة في السودان بل لعلها ستبقى في ذاكرة الأجيال جيلاً بعد جيل، وكتبها رداً على ما اقترفته الجبهة القومية الإسلامية من آثام بحق السودان فترة استواء رجالها في الحكم.
قال الطيب في المقالة: «من أين جاء هؤلاء الناس؟ أما أرضعتهم الأمهات والعمات والخالات؟ أما أصغوا للرياح تهب من الشمال والجنوب؟ أما سمعوا الأصوات القديمة، وأحسوا الأشواق القديمة، ألا يحبون الوطن كما نحبه؟ إذاً لماذا يحبونه وكأنهم يكرهونه، ويعملون على إعماره وكأنهم مسخرون لخرابه؟».
ثم يختم «من أين جاء هؤلاء الناس؟، بل مَن هؤلاء الناس؟».
 
صحيفة الايام
9 فبراير 2010