المنشور

المصادر الثلاثة للأمة ( 2 – 2)

أعطي عصرُ النهضة العربية إمكانيتين كبيرتين لنمو الليبرالية والماركسية، بسبب غيابِ رأسمالية الدولة في الدول العربية، ودخلتْ النزعتان في تعاونٍ عبر فترةٍ وجيزة ثم في الصراع المفتوح.
وبهذا فقد حدثتْ تأثيراتٌ كبيرةٌ للماركسية بتلك المواصفات داخل الدول العربية والإسلامية، عبر تمدد الأحزاب الشيوعية والاشتراكية وامتلاء الساحة السياسية بهما بعد الحرب العالمية الثانية خاصة، وحدث ذلك التداخلُ بين نمو رأسماليات الدول العربية وتلك الفكرة، وإذا كانت الأحزابُ الشيوعيةُ العربيةُ قد أخذتْ كليةً هذه الفكرةَ بحذافيرِها الشرقية، من دون أن تقدر على تنفيذها في أي قطر عربي مهم وكبير، فإن الاتجاهات القومية العربية الإسلامية قامت باستيحاء جوانب منها، وطبقتها في بلدانٍ عربيةٍ كبيرة ومهمة.
وهنا تم تذويب الليبرالية العربية فنجد ان أحزابها كالوفد المصري والاستقلال والأهالي وهيئة الاتحاد الوطني، تزول أو أن تبقى مُهمشة، حسب طبيعة كل دولة وتجربتها، فالوفد يتلاشى والاستقلال في المملكة المغربية يبقى بضعفٍ حتى يستعيدَ مكانتَهُ حين تطورت الحريات والقطاع الخاص.
وعموماً كان صعودُ رأسماليات الدول مغذياً لصعود الماركسية في بعض الأقطار، ومهمشاً لليبراليةِ في هذه الدول، وجاء بعد ذلك صعودُ رأسمالياتِ الدولة في أقطار الخليج مكرسةً المذهبيةَ السياسية وتداخلتْ التطوراتُ والاتجاهاتُ في صراعاتٍ وتحالفات معقدة.
وفي هذه الفترة كانت التجاربُ العالميةُ لرأسماليةِ الدولةِ في المعسكر الاشتراكي تتعرضُ للتآكلِ وبدأت ترى أن هذا القطاعَ الكلي المهيمنَ يتوجه لأزمةٍ عميقة، وتم طرح حلول لها بجمودٍ وبأشكالٍ مجزأة، وعبر مقاربةِ القطاعِ العام للسوق، وقد تم ذلك لكن لم تُفلحْ هذه المقاربة مع السوق في حلِ التخلفِ التقني وتدهور قوى الإنتاج عموماً، كذلك كان المركزُ الرئيسي لرأسمالية الدولة عالمياً وهو الاتحاد السوفيتي، ينفقُ على الخارج الكثيرَ من فوائض إنتاجه، في دعم تجارب أخرى تقومُ على أسسهِ السياسية والفكرية.
ولكن بعض الدول التي تقومُ على هذه الأسس والموجودة في أوروبا وبمقاربةٍ كبيرةٍ للعالم الغربي الرأسمالي الديمقراطي، راحتْ تخرجُ من هذا السياق الشرقي الشمولي نظراً لمستوى تطور القوى الاجتماعية والبشرية فيها. ثم انتقلت الأزمة للمركز وكان الانفجار!
إن قوى الماركسية الشمولية المؤثثة بذلك الإنتاجِ الفكري الروسي والتي تشكلتْ في الدول العربية والإسلامية جاءتها ضرباتٌ عنيفة مختلفة من الأنظمةِ العسكرية ومن الدول التقليدية، والتي امتلأت خزائنها بالفوائض النفطية، فوجود قوتين سياسيتين شعبيتين شموليتين لا يمكن أن يستمر في أي نظام، ولا بد أن تكسر إحداهما الأخرى، فإذا كانت كلتاهما تحديثيتين خسرت الحداثة كما في مصر والعراق والجزائر والسودان وغيرها، وإذا كانتا تقليديتين توسعَ التخلفُ كما في اليمن. ولكن يمكن لقوى ليبرالية وماركسية وإسلامية، ديمقراطية كلها، سواءً كانت في الحكم أوالمعارضة أن تتعايش وتخلق تقدماً كبيراً.
أجهضتْ أغلبيةُ الأنظمةِ العربيةِ الليبراليةَ والماركسيةَ معاً، وكان حسابُ الخسائرِ يتمثلُ في غيابِ الليبرالية الوطنية، فحين رجعتْ بعد الدهس الطويل وبدء نهوضِ القطاعاتِ الخاصة والخفوتِ المحدود لنموذج رأسمالية الدولة، كانت الليبرالية هذه هزيلةً وذات قشور، قد دخلها الفساد، وعاشتْ على الأرزاقِ الحكومية، وأصيبتْ برعبٍ شديد فهي تخافُ الاستثمارات الصناعية الكبيرة والجرأة السياسية، وتلتصقُ بأي نشاطٍ اقتصادي سريع الأرباح، وتحولها إلى الخارج، وتلوثت بالوعي الديني التقليدي بدلاً من أن تعيد إنتاجه.
وكذلك تم فقدان الماركسية الوطنية، فبين السجون والقمع أو بين الاستيراد الفكري، ذَبُـلت الهياكلُ الفكريةُ الغائصةُ وسطَ قضايا الشعب، وعاشتْ على النصوصيةِ المجلوبة ولم تخلقْ ماركسيةً منتجةً تحليليةً تمدُ خيوطَها مع القوى العادية في المجتمع وتحاورُ الإسلامَ خاصة وتعيدُ إنتاجَهُ، كما تحاورُ الليبراليةَ وتعيدُ إنتاجَها في زمنٍ مختلفٍ وفي بناها المستقلة – المشتركة معها في المعركة الموحدة للنهضة.
إن الأداتين المنهجيتين الكبريين في الوعي العربي: الليبرالية والماركسية، تم شللهما لزمنٍ معين، عبر ذلك التنامي الواسع للشموليات المختلفة، وعبر هذه السوقية الاقتصادية غير الإنتاجية، وكان البديلُ الجاهز عبر العصور هو المذهبيات المحافظة، المذهبيات النصوصية الجافة التي هجنتَها القوى الإستغلاليةُ بعد إنتهاءِ عصرِ الخلفاء الراشدين.
ونجد في زمن ازدهار النزعتين السابقتين كيف أن المذهبيات المحافظة، كانت في عزلة، بسببِ ضخامةِ التخلف الذي أُحيطت به خاصة في عصر الدولة العثمانية، فظهرت قواها مفككةً شاحبة حسب تطور الاقطار ومستوياتها، وتجلى ذلك بتباين المواقف المذهبية، من محافظة صارمة إلى تجديدية خافتة، وصعدت أنظمةُ الدولِ المستقلةِ التي لم تتخل كلها عن هذه المذهبية المحافظة كأداةٍ أساسية في السيطرة على الشعوب، موجهةً إياها لإزالة النزعتين السياسيتين الكبريين الماركسية والليبرالية، بتدرج محسوب نظراً لخطورة الأولى وضعف الثانية، وأدى هذا إلى ظهور الأحزاب السياسية المذهبية لأول مرة في التاريخ العربي الإسلامي، حيث كانت (الفرق) هي الشكل البارز في التاريخ السابق.
كان ظهورُ الحزب الديني الإسلامي عامة مضاداً للتراكم الحضاري العربي الإسلامي السابق، عبر إنجازاته الماركسية والليبرالية، فهو رجوعٌ للوراء، وتفكيكٌ للشعوب والأمم الإسلامية التي توحدتْ عبر النضال السابق، وهدر للتراكمية الديمقراطية الضئيلة المتحققة، فيضع نفسه في خدمة القوى المحافظة والاستعمارية التي تريد ضرب التجارب العربية الإسلامية التحررية المتصاعدة، فدخلت المنطقة في مرحلة التفكيك والانهيارات الداخلية ومحاربة الميراث العقلاني المحدود السابق.
لقد توحدتْ المذهبياتُ السياسية مع أنظمةِ رأسماليةِ الدولة في كل بلد، أو غدتْ هي المعارضةُ المُفككة لوطنيةِ كل دولة، وأقامت حواجزَ مع المصدرين السابقين، ولم تستثمر المصدرين لتنامي التقدم في الأمة.
بطبيعة الحال لم تعِ المنظومتان الماركسية والليبرالية أهمية تصاعد العنصر الديني الإسلامي في هذه اللوحة المركبة، وأُخذ كمؤامرة بشكل مطلق.
في المرحلة الراهنة أخذتْ تتكشفُ الضرورةُ الموضوعيةُ لتلاقي هذه المصادرِ الثلاثة لتكوينِ العرب السياسي في العصر الحديث، وهي المعبرة عن أغلبية الطبقات العربية، وهي إذا كانت نتاجُ ثوراتٍ ثلاثٍ عبر التاريخ: الإسلام ،والليبرالية، والماركسية، فقد صادرتْ هذه العملياتِ الديمقراطيةَ فيها الهيمنةُ الإقطاعيةُ في ظرفٍ، والاستعمارُ المباشرُ في ظرفٍ آخر، ورأسماليةُ الدولِ في ظرفٍ ثالث.
وهذه أمورٌ تشيرُ إلى التعقدِ التاريخي لتكوينِ الأمةِ العربية، ولإسراعِها في العصر القديم للقفزة فوق الظروف الشديدة التخلف، ولإسراعِها في العصر الحديث للاستعانة بمصادر سريعةٍ جاهزة للتقدم والتوحد، من دون أن تمتلكَ قواعدَ قويةً لذلك، وهي اليوم قادرة على أن تجمع ما هو مُفكك، وأن تغتني بالصراعات الديمقراطية، حيث الوحدة أقوى من الاختلاف، لأحداث تراكمات نهضوية جديدة، في أبنيتها الفكرية الداخلية وفي علاقاتها المشتركة.

صحيفة اخبار الخليج
8 فبراير 2010