المنشور

مضادات حيوية للملل

الملل شيء آخر غير الكسل. يقال انه من المستحيل أن تتمتع بالكسل كما يجب دون أن يكون لديك عمل كثير. ليس ثمة متعة في ألا تفعل شيئاً إذا لم يكن لديك أصلاً ما تفعله. أما الملل، حسب تعريف إحدى دوائر المعارف، فإنه “نوع من عدم لذة، لا نملك له تحديداً، ليس كدراً ولا حزناً. إنه الحرمان من كل لذة، يتسبب به شيء مجهول لنا في أعضائنا، أو أشياء الخارج التي بدلاً من أن تشغل روحنا، ينجم عنها ضيق أو قرف لا يمكن تعوده”.
وفي عدد قديم من ملحق “النهار” الثقافي كتب عفيف عثمان دراسة مطولة عما أسماه “شيطان الملل” تقصى فيها جذور هذا المفهوم، ليرينا بأن الأمر أبعد من مجرد ذلك الشعور العابس الغامض الذي ينتابنا ذات مساء أو أمسيات بأننا مللنا العمل ومللنا إيقاع الحياة اليومي ونرغب في الكف عن مواصلة الحياة على هذا الإيقاع.
تنقل الدراسة عن أحد أدباء القرن التاسع عشر تصويره لحال ضحية الملل “هذا الفراغ الذي لا يمكن التعبير عنه، حيث تجري الحياة من دون رغبات ومن دون أوهام ومن دون هدف (…) يحفر الفراغ في قلبي، حاجات من دون حدود تستنفدني في الصمت. والملل من الحياة هو شعوري الوحيد في عمرٍ نبدأ العيش فيه”.
شوبنهار، الفيلسوف الألماني، بلغ به الأمر أن طلب من السلطات العامة التدخل لمواجهة الملل، لمحاربته، إنه برأيه آفة عامة على الحكومات أن تتخذ إزاءه إجراءات، تماماً كما تتخذ إجراءات لمواجهة الجوع مثلاً، بل أنه يعد الملل والجوع الداء الأقدر على حمل الرجال على الجموح المتطرف.
ورغم أنه لم يقل ما الذي يفعله الملل في النساء، إلا أنه قال انه إذا كان بوسع الفن والفلسفة أن يساعدا على حل مشكلة الوجود، فإن الملل لا حل له، إنه ليس عارضاً نفسياً ولكنه شكل مروع للفشل النابع من طبيعة الذاتية المرتهنة بالكامل لقوة أكثر أصالة منها هي إرادة العيش.
عند الكثير من الكتّاب والمبدعين كانت الكتابة ملاذاً من الملل، لأن في الكتابة حصانة، شكل مقاومة بديل الاستسلام للملل الذي يمكن أن يفضي إلى خراب الروح، إلى الهشاشة والضعف فالانهيار، الكتابة هي الحل وساعتها يغدو الملل مصدراً للإلهام والخلق، لأن النقمة على الملل يمكن أن تخلق إبداعاً محتجاً على ظروف أو عالم يدفع نحو هذا الملل.
«لكن هذه التوصيفات الفلسفية فيها الكثير من الحذلقة والتفلسف الزائد، أو جرعة زائدة من التنظير”، قد يكون أمر الملل أهون من ذلك بكثير، قد يكون مثلاً بسبب فقدان الحب أو ضياعه أو غيابه. يمكن للحب أن يكون دواء لداء الملل، يمكن للحب ألا يسمح للملل أصلاً أن يطل برأسه. ثمة امرأة مشهورة في التاريخ قالت مرة: إن الذي يعيش من أجل شخص ما ليس في حاجة إلى البحث عن تزجية الوقت ولا التساؤل حول استخدام وقته، فكل الوقت يصبح وقتاً مكتسباً.
جرعة واحدة من الحب جديرة بأن تبدد جرعات زائدة من الفلسفة، جرعات زائدة من الملل.
 
صحيفة الايام
6 فبراير 2010