المنشور

تمهيد الثورة الخضراء الإيرانية (3 – 3)

فشل الشيخ رفسنجاني في إنبات ليبرالية خضراء وسط نظام الرأسمالية الحكومية الإيرانية الدينية، فقد تصاعد القطاع العام وأخذ يتعسكر، أي يغدو عسكرياً، تشكله قوى المخابرات والحرس، التي تنامت أدوارُها على حسابِ أدوار المثقفين الأحرار والتجار المستقلين، وراحت الفوائضُ الاقتصادية تتوجه نحو هذه البؤرة للقطاع العام ونحو سياساته الحربية المختلفة.
وظهرت محاولةٌ ليبراليةٌ أخرى تتمثل في الرئيس محمد خاتمي، الذي أخذ البلدَ نحو السلام الاجتماعي، والعقلانية السياسية، لكنه لم ينجح في جعل زهرة الليبرالية المحاصرة وسط القلعة العسكرية أن تصير حقولاً حرة.
توضحت في أفكار الرئيس خاتمي الذي قلل من سياسات المواجهات، وطرح حوار الحضارات، واللقاء الإنساني مع الغرب الديمقراطي لا الاستعماري، لكنه رفضَ أساسيات الحضارة الحديثة وهي العلمانية والديمقراطية التي تنبثق عنها، ودعا إلى ديمقراطية في ظل الإقطاع الديني، أي إلى حريات في ظل سيادة كبيرة لرجال الدين الذين يحددون سقفَ النظام الاجتماعي وسقف ما هو معقول وما هو غير معقول، وما هو حر وما هو غير حر، وفي التطبيق العملي فإن هذا يعني سيادة الرجال الكبرى على النساء وغياب المساواة بينهم، وسيطرة الحكام على المحكومين، وعائلات الإقطاع على الفلاحين، والتراث الديني المحافظ على التنوير والحداثة.
كذلك غاب عن برنامجه مشروع تحرير الاقتصاد من هيمنة الدولة الشمولية، وبالتالي فشل في إيجاد طبقة وسطى مساندة لإصلاحاته في المجال الثقافي المجرد الذي انغمر فيه!
كان لابد لأغلبية السكان من مساندة الرئيس خاتمي، لأسباب مختلفة لكل منها، نظراً لضغوط النظام على مختلف الطبقات الشعبية، وهو أمر كان يفرض على الرئيس بالمقابل أن يكون له برنامج اجتماعي يساند ويعالج مشكلات كل الطبقات الوطنية من رأسمالية خاصة وفلاحين وعمال وفئات وسطى صغيرة، عبر تحجيم الرأسمالية الحكومية وإصلاح بعض الجوانب الرئيسية فيها، ولكن كان الرئيس خاتمي أضعف من أن يشكل مثل هذا البرنامج، بسبب انشلال وعيه الخائف من العلمانية، والثورة الديمقراطية، وتقلبه كبرجوازي صغير بين الطبقات المختلفة، خاصة بين الرأسمالية الحكومية والرأسمالية الخاصة، وهو لا يعرف لمن ينحاز.
على كل مثل خاتمي نقطة مضافة أخرى لبرنامج الثورة الخضراء الغائرة في جسدِ المجتمع، الذي راحت تتضح ملامحه قليلا قليلا من خلال الشخصيات السياسية الدرامية التي صعدتْ على المسرح السياسي بأقنعة مختلفة، كي تؤسس ما هو نقيض النظام الديني الشمولي. لكنها ترتكز على مؤسساته وأفكاره، وتريد أن تفتح نوافذ في القلعة العسكرية، ولكنها لم تفعل سوى أن تجدد بعض الهواء، ليأتي غلق شديد بعدها، ويزداد الغلق أكثر فأكثر مع تصاعد المؤسسات العسكرية والاستخباراتية في التسيد على المجتمع، الذي راح يتململ. لكنه لا يعرف من هم خصومه في النظام، فوعيه البسيط المباشر لقراءة الظاهرات يتوجه إلى خصمه المكشوف وهم رجال الدين المحافظون، ولا يعرف الخيوط المعقدة بين العسكر والمثقفين والأجهزة الحكومية، ثم ان القطاع العام يظل هو المظلة الاقتصادية الحامية لمعيشته من مجيء وانتشار الرأسمالية الخاصة، وقد قدم العسكرُ شخصية تصلح لهذا المزاج الشعبي الراغب في حلول سريعة (تثويرية) لحياته المتكلسة. وهو الرئيس أحمدي نجاد الذي يقوم باستخدام موتيفاته الفنية السياسية الخاصة، من هجوم كاسح على اليهود وإسرائيل والغرب واستخدام الشعبوية الثورية الزائفة والوعود الدينية السحرية بالتغيير وفي المجال العملي يدعم صعود العسكر لكل شرايين الحياة الاجتماعية ويتظاهر بالفقر ودعم الفقراء وفي الحقيقة يصعد البيروقراطية الحكومية ونرى هنا كيف يتم التلاعب بعقول الجماهير التي تريد التغيير تارة من الليبراليين الدينيين، لكن الذين يعجزون عن فعل شيء جذري، فيخدعها نجاد بوعوده الانتخابية، فيحدث للناس هذا التمزق بين القوى الدينية الحكومية – المعارضة في ذات الوقت، وهذا الموقف التبس في التصويت عبر الانتخابات الأخيرة فتجسد في التصويت المزوّر أو الحقيقي فعلاً.
لقد فشلت الليبرالية الدينية أو الشمولية القومية العسكرية كلتاهما، وعلينا أن نقرأ حيثيات الثورة الخضراء فعلاً لنرى الأقوال والصراعات في خضم الأحداث بين أولئك الخصوم، المتصارعين داخل نظام ديني محافظ.

صحيفة اخبار الخليج
3 فبراير 2010