المنشور

تلازم الإصلاحين السياسي والاقتصادي

من العرض السابق الذي بسطناه في مقال يوم أمس، والمتعلق ببدائل رفع أسعار السلع، نستنتج أن الإصلاح السياسي في أي دولة من دول العالم، كائنا ما يكون نظامها السياسي، لا يمكن ان يتحقق بمعزل عن الإصلاح الاقتصادي القائم على التنمية الحقيقية المستدامة التي يشعر بثمارها، على نحو ملموس، كل فئات وطبقات المجتمع ولو بحد أدنى من تلك الثمار، وبخاصة فيما يتعلق بالطبقات الوسطى والدنيا.
وكل إصلاحات سياسية تتم بمعزل عن الإصلاحات الاقتصادية تعد فاشلة وعديمة الجدوى بكل المقاييس، فلا إصلاح سياسي في ظل خراب اقتصادي والخراب الاقتصادي يفضي حتما الى الخراب السياسي والعكس بالعكس، بل لطالما جاء الخراب الأول إفرازاً ونتيجة للخراب الثاني.
وبقدر ما تخطو الدولة خطوة حقيقية ملموسة ودائمة باتجاه الإصلاح السياسي فإنها تُهيئ الجو عمليا وموضوعيا لتحقيق الإصلاح الاقتصادي والعكس صحيح، إن غياب كلا الإصلاحيين هو الذي يؤدي الى الاختلالات الحادة والانفجارات الاجتماعية ويقوض الأمن والسلم الأهليين الوطنيين، ويهيئ التربة لتفقيس وانتشار الأوبئة الطائفية والمذهبية والعرقية وخلافها حيث تكون هذه الأوبئة الغطاءات التي يتدثر بها المستفيدون من التوزيع غير العادل للثروة لمنع الاصطفافات الطبقية الحقيقية، فهل سمعتم بحرب أهلية أو نزاع أهلي قائم في الظاهر على أسس طائفية أو قبلية أو مذهبية يعيش شعبه بمختلف فئاته في بحبوبة من العيش ولو بشكل متفاوت بين فئاته؟
بعبارة أخرى فإن الصراعات الدينية والنزاعات الطائفية من النادر جدا ان تظهر أو تتفجر في مجتمعات الدول التي تأخذ بالإصلاحين معاً: السياسي والاقتصادي، وبخاصة تلك التي قطعت شوطاً في تجاربها الديمقراطية كالدول الغربية.
ولئن كانت الدول الخليجية تفتقر إلى مشاريع اقتصادية علمية مخططة، فضلاً عن تغييبها المشاريع الإصلاحية السياسية فإن ما يخفف من وطأة ذلك التغييب ويرجئ حدوث الانفجارات الاجتماعية فيها، هو أن الله سبحانه وتعالى أفاء عليها بثروات نفطية هائلة لم يعدم الاستفادة منها بدرجة أو بأخرى حتى معظم فئات شعوبها، ومازالت هذه الفئات تنعم بما تبقى من تلك الثروات الهائلة حتى في ظل ما لحق بها من تآكل بفعل الأزمة المالية العالمية، وحتى في ظل ما لحق بها من نضوب بفعل فساد ذوي النفوذ والمتنفذين، ممن يتحكمون في تلك الثروات.
وهنا بالضبط مربط الفرس في تفسير بطء الوعي السياسي لدى غالبية المجتمعات الخليجية، ولكن ما أن تتبدد تلك الثروات وتعجز حكومات دول الخليج عن إنقاذ ما يمكن إنقاذه للمحافظة على رغيف الفئات الأكثر تضررا من الأزمة المالية والفساد والتوزيع غير العادل للثروات فإنها غير محالة لن تكون بمأمن من تعرضها للهزات والانفجارات الاجتماعية.
وبالرغم من كل ما يطرح اليوم من انتقادات علنية وتبرمات متفاوتة من بطء العملية الإصلاحية السياسية في بلادنا أو تراجعات في هذا الجانب أو ذلك الجانب من جوانبها فإن لا أحد يستطيع أن يماري في وجود مستويات معينة على الأقل للإصلاح السياسي. أما حين يجري الحديث أو النقاش والتقييم فيما يتعلق بالإصلاح الاقتصادي فلا تعجب إذا ما وجدت الكثيرين من يماري في وجوده، بل لا تتعجب إذا ما سمعت الكثيرين من معظم فئات وشرائح قاع الهرم الاجتماعي يترحمون على الحالة المعيشية والاقتصادية التي كانوا عليها قبل نحو عشر سنوات ونيف خلت.
ما معنى ذلك كله؟ معنى ذلك بكل بساطة انه اذا كان كثيرون يشكون على صفحات الصحف وفي الندوات والمحاضرات وفي المسيرات العلنية المشروعة من بطء المسار السياسي للمشروع الإصلاحي أو تراجعه في هذا الجانب أو ذاك فإن من يشكون من بطء المسار الاقتصادي هم أكثر، ومعنى ذلك أيضا أن المسار السياسي، حتى مع التسليم ببطئه وتراجعه، فإنه متقدم كثيرا على المسار الاقتصادي.
لذا ينبغي الاعتراف تأسيسا على ما تقدم بالحاجة الماسة العاجلة إلى تحقيق انجازات ملموسة لدى كل فئات المجتمع لا بعضها في الإصلاحات الاقتصادية المعلنة.
ان الناس لا تعنيها لغة وفلسفة الاقتصاد وقوانينه سواء لتبرير المفاعيل السلبية للأزمة المالية العالمية أم لزيادة الطلب على العرض أم لانخفاص وزيادة سعر برميل النفط، أم لانخفاض أو ارتفاع الدولار أم للتضخم. الناس العادية لا تفهم الاقتصاد الجيد إلا الاقتصاد الذي لا ينتزع لقمة العيش من أفواههم، وان الاقتصاد الجيد هو الذي لا يطلق الحرية لأرباب العمل لقطع أرزاقها أو لرفع أسعار المواد الضرورية كما يشاءون تارة بمبررات وجيهة وتارات عديدة بمبررات مختلفة لركوب موجة الأزمة العالمية، والاقتصاد الجيد لدى الناس هو الذي يحقق مطالبهم المشروعة في رفع الأجور ولو بأدنى الممكن كلما ارتفعت الأسعار والتهمت بأنيابها قروشهم الشحيحة.
من هنا يمكن فهم القلق الذي استبد بالناس حينما ترددت أنباء بوجود مجرد “دراسة” لرفع أسعار البنزين، وكان أسوأ ما في توقيت تسريب خبر تلك “الدراسة” انه جاء بعد أيام قليلة والبلاد تعيش أجواء أفراح العيد الوطني وعشية العام الجديد وحيث كانت تنتظر المزيد من مكرمات جلالة الملك.
وبعد، فهل نقبل على مراجعة عاجلة تقويمية موضوعية لحصاد المسار الاقتصادي للمشروع الإصلاحي جنباً الى جنب مع مراجعة تقويمية للمسار السياسي؟

صحيفة اخبار الخليج
27 يناير 2010