المنشور

هايتي بلد الغناء والألم

جاءت الهزة الكارثية لشعب وحكومة هايتي صدمة عميقة بلغت حد الرثاء التراجيدي، تلك الجزيرة الكاريبية التي ظلت تسبح في أرخبيل ممتلئ بالأعاصير والانقلابات العسكرية والفقر، وأخيرا لم يرحمها الزلزال، الذي لم تعرف مثله لما يقرب القرنين . الكارثة هزت المجتمع الدولي والمشاعر الإنسانية في زمن مازال هناك بشر يغنون بطريقتهم «لا احد يبكي على هايتي !» وبذلك تكون الأغنية تصلح لماساتنا العربية فلا احد اليوم يبكي على اليمن ولا غزة أو العراق والسودان، ولا احد يبكي على موريتانيا ولا على أفغانستان والصومال، ولن يبكي أيضا احد على كل الجرعات الأليمة التي يبتلع ريقها الناس صبحا ومساء وهم يشاهدون كارثة تلو الكارثة ودم ينزف كالأنهر الصغيرة في حروب أهلية ونصف نظامية .
ربما لا يبدو الموت غير متوقعا لإنسان يعيش حالة إرهاب وحرب وتفجيرات مستمرة كأفغانستان والصومال وباكستان وغيرها من البلدان المتفجرة ببؤر الإرهاب، ولكن الإنسان يمتلئ ذعرا ورعبا عندما تحل الكارثة المميتة عليه فجأة ودون توقع، فيصبح أمام مشهد يومي مريع للغاية ومشاهد بائسة وبشعة للأجساد البشرية وهي ممتدة في الخلاء، وكأنها قطع من الأقمشة المزرية وفي انتظار شاحنة القمامة. بيوت ودمار وجوع وعطش ومصابون في كل مكان من العاصمة، بعد أن دمر الزلزال كل البنى التحتية وترك حلقة الاتصالات مقطوعة مما عقد عملية الإنقاذ والتواصل والإغاثة العاجلة . في مثل هذه الظروف الإنسانية الصعبة نقف أمام ضمائرنا ماذا تفعل الإنسانية لنفسها عندما تدخل محنة بيئية؟ فنموذج هايتي ليس إلا نموذج واحد ينتظرنا في الأعوام القادمة، مثلما تركت لنا أجراس التسونامي والعواصف المتتالية في دول كبرى كالولايات المتحدة حيث دمر إعصار كاترينا الولاية تدميرا ضخما لم تستنهض بعدها كاملة حتى ألان . في ظل هذا الدروس الإنسانية، نلمس باستمرار الحس اليقظ أحيانا عند الدول والشخصيات والزعماء والمنظمات المدنية، المجتمعية أو الرسمية، المحلية أو الإقليمية والدولية، فكلها تستنفر طاقاتها وتتحرك بأسرع ما يمكن، لكي تنتشل قدر المستطاع من الأرواح المهددة بالموت، والتي تقف على مسافة قريبة منه، ففي كل ساعة تأخير يموت شخص لا يسعفه الرمق ولا يسعفه جسده المريض والواهن ولا يسعفه الوضع الكارثي الذي يعيشه، لهذا يصاب السكان المحليون في تلك اللحظة بذعر مضاعف وتشل الدهشة قواهم وقدراتهم، ويكتشفون أنهم يودون تقديم المساعدة والعون للضحايا، ولكن خبرتهم وإمكانيتهم تحول تقديم ما هو ممكن أكثر من حمل طفل صغير أو امرأة عجوز أو إزالة ركام بسيط من الخشب، غير إن من في إمكانهم إزالة تلك القطع الإسمنتية الضخمة، وتقديم المواد الغذائية والأدوية والاحتياجات الضرورية والعلاج والخيام، هم وحدهم المنظمات الدولية والدول، هم وحدهم من يمتلكون الطائرات والفرق والبواخر والمعامل الميدانية والمستشفيات المتحركة، كلها كانت أمامنا في هذه اللحظة من لحظات هايتي المرعبة. إن يفقد بلد فيه ثلث السكان مساكنهم وثروتهم القومية، وتفوق أرقام الموتى الخمسين ألف إنسان، وهناك رقم مضاعف، لم يتم بعد تأكيده، ففي مثل هذه اللحظة تصاب القدرات الإنسانية بالشلل في تقدير حجم الخسائر.
في هذا المشهد التراجيدي يفتح لنا الساسة معاركهم الجانبية، فتبدأ الصحافة الأمريكية والمحافظين وغيرهم من توجيه اللوم على الرئيس الأمريكي لتكتب الصحافة بكل وضوح «إن كارثة هايتي هي امتحان لباراك اوباما، ففي الماضي كان من المنتقدين لسياسة بوش في كيفية تعامله مع إعصار كاترينا» فهل نرى شيئا شبيها بذلك؟ محاولة الصحافة الأمريكية التركيز على حادثة وصول الفرقة الصينية قبل الأمريكية لهايتي بساعات رغم فرق المسافة والإمكانيات .
في هذه اللحظة يتشابه الساسة والجماعات المرتزقة المهووسون بالنهب والسلب فيضيفون لجريمتهم جرماً إنسانياً آخر، وما بين ابتزاز رجل السياسة ورجل النهب هناك مجرد مسافة أخلاقية وقيمية، ففي لحظة هايتي المرعبة علينا أن نركب قاربا إنسانيا واحدا عند الكارثة، وعلى الجميع أن ينقذوا شعبا ووطن من كارثته. الأمريكيون يفتشون عن رعاياهم في الجزيرة، والذين يبلغ عددهم ما بين 40 و45 ألف أمريكي وحتى لحظة مقالتنا هذه لم يستطيعوا تقديم القوائم، فيما راح الفرنسيون يبحثون أيضا عن رعاياهم، أما الكوبيون الذين لديهم 300 طبيب في هايتي بشكل مساعدات دائمة يفكرون مع البرازيليين كيف يبعثوا بإمدادات طبية عاجلة تشاركهم نفس المشاعر والموقف دول ومنظمات عدة .
وإذا ما نجحت فرق الإنقاذ الأمريكية في نقل بعض دبلوماسييها للعلاج في قاعدة غوانتانامو الكوبية القريبة، فان المجتمع الدولي والأمم المتحدة تستنجد العالم بحاجتها العاجلة لمائة مليون دولار لإنقاذ الوضع الطارئ على ميزانيتها المستنزفة بكوارث ومصائب العالم المتنوعة . يبدو إن الأمين العام حظه عاثرا مع العام 2010، والذي يحمل في طياته ما هو أصعب، فهناك مليار جائع مهددين بالموت هم أكثر انتظارا للقمة والعلاج في قاربنا الإنساني، وما يحتاجه المجتمع الدولي لإنقاذ جياع العالم وليس جياع هايتي مبلغ قدره ستة مليار دولار فيما الدول المانحة لم تدفع إلا المليارين، ومعنى ذلك إن الآخرين أمامهم خيار الموت جوعا بطريقة بطيئة.
 
صحيفة الايام
24 يناير 2010