المنشور

تـونــــس


ثمة مدن تثير فضولك حتى قبل أن تراها. غالباً ما تحاط مثل هذه المدن بسمعة أو بحكايات وأحياناً بأساطير. أظن أن تونس واحدة من هذه المدن، فمنذ المدرسة ومنذ أغنية فريد الأطرش الشهير نحن نعرف أن تونس خضراء، وما أن يذكر اسمها حتى تلحقه الصفة تلك.

تونس، إلى ذلك، تذكرك دائماً بقرطاج، لا أعني مهرجان قرطاج الشهير، وإنما أعني تلك الحضارة المزدهرة منذ القرن الثامن قبل الميلاد، يوم فرت الأميرة المشرقية الشهيرة “أليسا” من مدينة صيدا بلبنان واجتازت مياه البحر المتوسط لتؤسس على ضاف قريبة من تونس المدينة اليوم، حضارة بلغت شأناً في الفنون والآداب والعمارة، لقد صور عبالحليم كركلا حكاية هذه الأميرة الشهيرة في عمله الجميل عنها.

وتونس أيضاً هي ابن خلدون، العلامة العربي الشهير الذي ولد في تونس في القرن الرابع عشر الميلادي، ومن هناك بدأت حياته الفكرية الثرية التي ما زالت تثير الجدل حتى اليوم، ووضع قواعد منهج متكامل في دراسة تاريخ الشعوب وتطور مجتمعاتها ما زال علم الاجتماع الحديث ممتنًا إليه في الكثير من أحكامه واستنتاجاته. وما زال تمثال ابن خلدون في وسط الشارع الرئيس في العاصمة تونس أمارة اعتزاز التونسيين بانتساب هذا الاسم المضيء إلى بلادهم.

المسافة بين المخيلة والواقع هي دائمة مسافة يعتد بها، ولكن الصورة التي في الذهن عن تونس إنما تتأكد بالمشاهدة، هذا على الأقل ما شعرت به شخصيا وأنا أقضي أياماً في تونس .. البلد الوديع الذي ينبسط طويلاً على البحر الأبيض المتوسط وتغتسل ضفافه بمياهه اللازوردية التي تزداد توهجًا وإشراقًا تحت أشعة الشمس التي تتمنى المكوث تحتها وهي تبعث شعاعها الدفيء الرحيم.

هو نفس البحر الذي اجتازته “أليسا” بقرون ثمانية قبل ميلاد المسيح لتؤسس قرطاجانة التي مجد “أرسطو” لاحقًا دستورها الديمقراطي واعتبره أرقى من دستور أثينا. وهو نفس البحر الذي اجتازه القائد الإسلامي “عقبة بن نافع” في طريقه إلى القيروان في القرن السابع الميلادي ومن هناك اجتاز أراضي المغرب العربي واصلاً حدود المحيط.

وفي القيروان مازال الجامع الكبير الذي يحمل اسم هذا القائد العربي الذي بناه جامعاً فيه التناسق البديع بين الفنون المعمارية الشرقية والغربية. والبحر المتوسط هو نفسه البحر الذي اجتازه العرب الفارون من الأندلس بعد سقوط الدولة الإسلامية هناك، فجاءوا إلى تونس وسواها من بلدان المغرب العربي حاملين معهم العناصر الحضارية المدهشة التي أثرت التكوين الحضاري والثقافي المحلي.

كانت تونس بالنسبة للعرب باباً إلى أفريقيا المزدوج الكلمة، بالمعنى الجغرافي المباشر، وبالمعنى المجازي لأن تسمية “أفريكا” التي تطلق على القارة بكاملها اليوم إنما كانت في الأساس اسم تونس.

ولكن جمال وفرادة تونس إنما يكمنان في ذلك التزاوج بين العناصر الحضارية والثقافية القادمة من أفريقيا وأوروبا ومن الحضارة العربية الإسلامية ومن حضارات فينيقية ورومانية تضرب بجذورها بعيداً.

تونس مدينة مثيرة للفضول قبل الرؤية، ومثيرة للدهشة بعدها.