المنشور

يوم سقوط غرناطة

لا ينفصل الموقف الرسمي العربي الراهن البالغ التردي سواء تجاه القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا العربية المصيرية المعاصرة أم تجاه مجمل القضايا الوطنية الآنية القطرية وعلى الأخص القضايا المتصلة بالاصلاحية السياسي والاقتصادي ومن ضمنهما رفع سقف الديمقراطية الآخذ في التدني ومجمل الحريات العامة وتحسين الاحوال المعيشية للسواد الاعظم من الشعوب العربية..
نقول لا ينفصل هذا الموقف عن موقف اللامبالاة من القضايا الثقافية المتصلة بتاريخ العرب وحضارتهم وثقافتهم وتراثهم، سواء على الصعيد القطري أم على الصعيد الدولي.
فمن يخذل شعبه في حقوقه وينكث بوعوده لتحقيقها ومن يخذل امته في قضاياها المصيرية القومية المشتركة كيف يتوقع منه ان يكون عاشقا او محبا لتراثه وتاريخه الوطنيين؟ وكيف يتوقع منه ان يكون مهموما ومباليا بأي قضية ثقافية او حضارية دولية تتصل بتاريخ وحضارة امته؟ لا بل من الاولى وهو كذلك ان يعتبر مثل هذه القضايا ترفيه أو “كلاما فارغا” لا معنى له، وبالمثل فمن الطبيعي أيضا ان يكون موقف الجامعة العربية مرآة وامتدادا لمثل تلك المواقف المتخاذلة لدولها كافة.
وإذ نسوق هذه المقدمة التوضيحية المطولة بمناسبة تجدد الغياب العربي رسميا وشعبيا معا من قضية الاستفزاز الاسباني السنوي المتمثل في الاحتفال بيوم الثاني من يناير من كل عام باعتباره اليوم الذي سقطت فيه آخر مملكة عربية في الاندلس عام 1492 ألا هي “مملكة غرناطة” حيث تحتفل هذه المدينة بهذا اليوم كيوم عيد وعطلة رسمية وتجرى فيه احتفالات على اوسع نطاق، ومن ذلك انطلاق موكب محاط بأفراد من رجال الجيش يطوف شوارع المدينة الرئيسية وصولا إلى الكنيسة التي دفن فيها الملكان اللذان سقطت على ايديهما مملكة غرناطة العربية: الملكة ايزابيل وزوجها فرناندو، وهناك يتم وضع اكليل من الغار والزهور على القبرين.
وكما هو حال الموقف الرسمي العربي المتخاذل من القضية الفلسطينية حيث باتت الانظمة العربية لا تجد حرجا من التفرج على وقوف الكثير من انصار القضية الفلسطينية في العالم وحدهم يذودون عنها ويطالبون برفع الحصار عن غزة، فكذلك هو الحال من وقوف جماعات ومؤسسات مدنية اسبانية شريفة مؤيدة للعرب وحدهم في معركة المطالبة بالغاء ذلك الاحتفال السنوي الاستفزازي للمدينة بسقوطها وطرد العرب منها، ومن ابرز هذه المؤسسات “جمعية غرناطة” التي نددت بذلك الاحتفال الاستفزازي باعتباره يناقض مبدأ الحوار بين الثقافات وتآخيها الذي ترفعه الحكومة الاسبانية مادام احتفال كهذا ينكأ الجروح التاريخية التي لا داعي لفتحها.
اكثر من ذلك فان الجمعية الاسبانية المذكورة طالبت بتكريم الغجر واليهود والعرب باعتبارهم ضحايا جرائم انسانية ارتكبت في حرب اسقاط المدينة من يد العرب، وطالبت بالتضامن مع كل الفئات التي راحت ضحية تلك الحملة “الاسبانية” التي شنت على المدينة “لتحريرها” من حكم العرب.
اما “جمعية الشعب” فقد اصدرت بيانا في يوم المناسبة نددت فيه بقوة ضد ذلك العيد الاستفزازي “نريد ان نعبر عن رفضنا التام لاحتفالات سقوط غرناطة.. نطالب بالغاء هذه الاحتفالات حالا، واحلال يوم 26 مايو محلها يوما لغرناطة” وهو اليوم الذي تم فيه اعدام ماريانا بينيدا عن 26 عاما (1804 -1831)، وهي احدى الشخصيات الوطنية المعروفة بموقفها الشجاع ضد الاضطهاد والحكم المطلق في مدريد حيث وقفت هذه البطلة ضد الدكتاتورية منذ صغرها ولم تتنازل عن موقفها حتى بعد القاء القبض عليها فجرت لها محاكمة صورية وتم تنفيذ حكم الاعدام فيها يوم 26 مايو 1831 بعد ان وقعه الطاغية الملك فرناندو السابع.
وانه لمن المؤسف حقا ان يخوض الشرفاء والوطنيون والديمقراطيون الاسبان المعارك الثقافية والسياسية في الدفاع عن قضايا العرب الحضارية التاريخية فضلا عن قضاياهم السياسية المعاصرة وحدهم في ظل غياب تام من أي دعم عربي او مد أي شكل من اشكال الجسور معهم، فلم نسمع بأي دور لأشكال من الاتصالات والدعم من قبل السفارات العربية في مدريد او مكتب الجامعة العربية، ان يوجد مكتب لها هناك، ولا حتى دعم او تواصل من قبل القوى السياسية العربية ومنظمات المجتمع المدني العربي.
أكثر من ذلك فلم تفكر أي جهة عربية سواء أكانت رسمية ام شعبية في استنهاض القوى والرموز اليهودية الشريفة لإقامة فعاليات مشتركة موازية للفعاليات الاسبانية الصديقة للمطالبة بالغاء ذلك الاحتفال وفضح ما ارتكبه الاسبان من جرائم ابادة وطرد لليهود والعرب بعد سقوط غرناطة، وحيث تقوم الصهيونية باستحضار كل مآسي اليهود على مر التاريخ في دعايتها الا مأساتهم المشتركة مع العرب بعد سقوط غرناطة لأن الدول العربية والاسلامية هي من أكثر الدول التي احتضنتهم بعد طردهم من الاندلس، وعاشوا فيها كما كانوا قبلا متآخين مع السكان العرب.

صحيفة اخبار الخليج
22 يناير 2010