المنشور

غياب الجدل من تاريخ اليمن

تشكلت الجمهوريات العربية بطرق غير ديمقراطية وعبر انقلابات عسكرية، وتم تغييب التراكم الديمقراطي البسيط من الحياة العربية عبر قفزات الضباط العسكريين للاستيلاء على السلطات.
وكلما ذهبت الجمهوريات إلى المناطق المذهبية والبدوية والقروية ازدادات تخلفاً، وهي هنا تستعيدُ المواريثَ المحافظة في بناء السلطات، وفي العلاقات الدولية، إما مشاكسةً للغرب وإما تبعية وانحناءً له، وإما هتافات ورقصات واستعراضات بين الجمهور الفرح وإما فتح أبواب الزنزانات لقياداته وجمهوره المساند، فالعلاقات الجدلية بين السلطات الجمهورية ومختلف المفردات الاجتماعية العربية تتلون من خلال القبضة العسكرية.
ولهذا رأينا جمهوريتي اليمن وهما تعانيان أشد المعاناة في سبيل تكوين نظام، أي نظامٍ مستقر! ليس لأن الأنظمة الجمهورية فاسدة بشكلٍ مطلق، ولكن لأن اليمنيين وقبلهم عرب آخرون، استعاروا هياكل جمهورية ليس فيها اسم للجمهور، وهي عبارة عن سيطراتِ أقلياتٍ سياسية وعسكرية، عجزت عن إنشاء علاقات ديمقراطية مع الجمهور الذي تحكمُ باسمه.
حين يتخلى النظامُ الجمهوري الذي يظهر فجأة عن المواريث السياسية والاجتماعية السابقة ويقفز للسلطة، لا يكونُ ميراثاً تراكمياً ويلغي استقراراً ونظاماً استمرا قرونا، وكأنه يبدأ من الصفر.
بلا شك إن الأنظمة السابقة متخلفة وبعضها شديد التخلف كنظام الإمامة في اليمن، وبعضها غير مقبول تماماً كالسيطرة البريطانية في الجنوب، لكن لا يمكن القفز على هذين النظامين وإنتاج نظامين من خلال التأملات الشخصية للثوار والضباط.
لابد من مراعاة النظام السابق والعمل على تطوير منجزاته ورفض سلبياته، أي أن قفزات السياسيين والضباط على كراسي الحكم، تقود للقطع مع الماضي، وليس للجدل الديمقراطي مع الماضي.
مهما كان سوء نظام الإمامة لكن لابد من ترك الشعب هو الذي يختارُ نمطَ الحكم، وأن تتشكل من هذا الجدل مؤسسات، مهما طالت الفترة الانتقالية، بحيث تنبثق التجربة الجديدة من الناس، ومن تعلمهم ومن مستويات مناطقهم ومن الإصلاحات التي سوف تتشكل من وجودهم الشرعي في مؤسسات الحكم الجديد.
لقد عرف السياسيون والضباط بأن ثمة شكلاً سياسياً غربياً اسمه النظام الجمهوري، ولكنهم لم يدرسوه! بل استعاروا شكله الخارجي، وشبحه السياسي، وظنوا بأنهم يؤسسون حكماً جمهورياً!
جاء سياسيو الجبهة القومية التي حكمت جنوب اليمن من جمل سياسية مضطربة وتحررية وفوضوية وأنجزوا الاستقلال المهم في حياة اليمن، ثم صاروا اشتراكيين وأمموا وخلقوا طبقة بيروقراطية عسكرية مسيطرة على وسائل إنتاج فقيرة.
كان التوجه لنظام رأسمالي ديمقراطي وتحريك عجلة الاقتصاد وتوسيع نطاق الثروة الوطنية، وغيرها من المهمات الأولية لنظام وطني أولي هي المطلوبة في ذلك الحين، لكن الجملة الثورية عصفتْ بالموضوعية السياسية، وقادت اليمن لطريق مسدود، ثم ألقتْ بها في أحضان العسكرية الشمالية التي لا ترحم، والتي عنونت نظامها باسم الجمهورية وليس له علاقة بالجمهورية.
إن النمو الطائفي لنظام صنعاء، ترافق مع نمو البيروقراطية العسكرية السياسية الشمالية، فدخلتْ في تمزيق شتى مفردات النظام، فهي مَلكيةٌ فرديةٌ متضخمة، وهي مقتصرة على نشاط النخبة المهيمنة الشمالية، وبهذا فهي قادت مفردات النظام السياسي للتفكك، بدلاً من تطوير أقاليمه ومذاهبه كافة.
لم يكن التوحد اليمني قائماً على أسس موضوعية، فهي وحدة عاطفية ومضت إليها قيادة الجنوب لتتخلص من الفواتير المرتفعة لنظام قصير النظر، توجه لـ (الاشتراكية) وهي رأسمالية دولة عسكرية قبلية، ليس لها علاقة بالاشتراكية، وراحت هذه القيادات تأكل نفسها، بسبب رفض تشكيل دولة رأسمالية ديمقراطية تعددية، ثم كانت الوحدة في تصورها حلاً لكل مشكلاتها التي لم تستطع أن تقرأها وتعيدُ النظر فيها، لأن كل زعيم استغل مشكلات البلد لكي يهيمن على السلطة فدخلوا في حرب تدميرية للبلد وللتجربة.
واستغل نظام الشمال العسكري القبلي هذه العملية ليسيطر على كل شيء. فقامت قيادة الجنوب بخطأ أكبر بإعلان الانفصال!
كان من الممكن أن تتلاقى قوى الليبرالية الوطنية المحدودة الشاحبة في الشمال والجنوب على برنامج إنقاذ والعودة لأسس النظام الحديث، الذي طرحه بعض زعماء الحزب الاشتراكي حين عركتهم التجارب وأدركوا سراب التسميات السياسية الكبيرة في واقع اليمن الفقير اقتصادياً وفكرياً، لكن قيادة الشمال رفضت تشكيل نظام ديمقراطي.
ومن ذلك الحين تفكك اليمن إلى أقاليم وقبائل مسيطرة على المناطق وإرهاب مستورد وانفصال وتدخلات أجنبية خطرة.

صحيفة اخبار الخليج
22 يناير 2010