المنشور

الدرس التركي

رغم أن العالمين العربي والإسلامي أدميا الأسبوع الماضي الأيدي تصفيقاً لتركيا على موقفها الصارم إزاء الصلف الإسرائيلي، إلا أن تركيا كانت بذلك قد لقنت العرب والمسلمين والإسرائيليين، وكذلك الغرب دفعة واحدة درساً قاسياً، لكنه ضروري لكل الأطراف. مفاد هذا الدرس للعرب والمسلمين: قبل أن تقرروا هدفاً ما أحسنوا إيجاد الأدوات المحركة لبلوغه، وإذا قررتم فلا تهنوا وامضوا حتى النهاية. وبالنسبة إلى الإسرائيليين: نحن لسنا كالعرب ولا كبقية العالم الإسلامي. نحن نستطيع أن نجعل أية محاولة إسرائيلية عدائية لمعاقبتنا على مواقفنا ترتد عقاباً قاسياً لـ «إسرائيل» ذاتها وحصاراً لمصالحها. أما للغرب: فسواء قبلنا في الاتحاد الأوربي أم لا، نحن نعرف كيف نشق طريقنا ونحتل موقعنا كدولة كبرى شرقاً وكبرى غرباً باعتبارنا جسراً موصلاً بين الغرب والشرق. وسيأتي إلينا الغربيون كما الشرقيون، وبينهما «إسرائيل»، بحثاً عن حلول لمشكلاتهم.
صباح يوم الأربعاء كان أفيغدور ليبرمان قد اعتبر الاعتذار الإسرائيلي الملتوي مقابل الإهانات التي وجهت للسفير التركي نهائياً، وأنه لن يكون هناك اعتذار صريح حتى لو سحبت تركيا سفيرها. أما في المساء فقد سرب راديو «كول إسرائيل» خبراً يفيد بأن نتنياهو هاتف ليبرمان مناشداً «افعل شيئاً ما.. أنت تعرف كيف». وفسرت الإذاعة الأمر بأنه بين الصباح والمساء مورس على رئيس الوزراء الإسرائيلي ضغط كبير من جانب القوى القلقة من تضرر مصالحها الاقتصادية من جراء تدهور العلاقات مع تركيا. كما أشارت مصادر أخرى إلى أن وزير الدفاع باراك قد ترجى الرئيس بيريز ليضغط الأخير على نتنياهو. رغم الأزمة كان لايزال في فلسطين المحتلة وفد تركي للتفاوض بشأن صفقة لشراء 10 طائرات بلا طيار من طراز «نيرون» الإسرائيلية بقيمة 180 مليون دولار، كما كان قد أشار إلى ذلك وزير الدفاع التركي.
وعلى مستوى آخر، كان السيد أوردغان الذي كان يقوم بزيارة إلى موسكو في الفترة نفسها يبحث مع الروس أوجه التعاون بين الطرفين والتي شملت أيضاً مشروع بناء فرع جديد لخط «التيار الأزرق» لأنابيب نقل الغاز، وهو أحد أهم مسارات نقل المواد الهيدروكربوهيدراتية الروسية إلى تركيا. أما عبر «التيار الأزرق – 2» فسوف يتم ضخ الغاز الروسي إلى الشرق الأوسط، وإلى «إسرائيل» بالدرجة الأولى.
على هذه الخلفية بدا الوجه الإسرائيلي مساء الأربعاء أشد اسوداداً عما كان عليه صباح ذلك اليوم. فالمحاولة الإسرائيلية لإهانة تركيا انتهت بالنسبة إلى «إسرائيل» بمهزلة كما بدأت. ذلك لأن الحسابات الاستراتيجية التركية أضبط من الإسرائيلية بكثير. وكما أشار خبير معهد التقدير والتحليل الاستراتيجي الروسي سيرغيي ديميدينكو في مقابلة مع صحيفة الـ دبرافدا.آر يو» في 23 ديسمبر/ كانون الأول ,2009 فإن القيادة التركية الحالية ماضية من دون أن تحيد في الخط الاستراتيجي التركي ذاته لتحويل تركيا ليس فقط إلى دولة إقليمية عظمى، بل وقائد إقليمي للمنطقة. وعلى هذا الطريق، فهي تنخرط بنشاط في لعب دور نشط في تسوية قضايا الشرق الأوسط وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. ورغم الرصيد التاريخي الطويل للعلاقات التركية الإسرائيلية، إلا أن تركيا، ومن أجل هذا التحول الاستراتيجي تسعى بشكل حثيث إلى تطوير علاقاتها مع كبار اللاعبين في المنطقة كإيران وسوريا، وربما السعودية غداً. وحتى بعد تسوية الأزمة الأخيرة أكد الأتراك من جديد مضيهم في الوقت نفسه مذكرين الإسرائيليين بما يتوجب عليهم عمله من أجل التسوية العادلة. وفي السياق نفسه يمكن أيضاً فهم الموقف المشرف للقيادة التركية أثناء العدوان الصهيوني على غزة العام 2008 ونقد أوردغان الحاد لـ «إسرائيل».
غير أنه لا يجب أن يساور الوهم أحداً أبداً في أن الاستراتيجية التركية المشار إليها ستُسقط من حساباتها يوماً ما ارتكاز الاستراتيجية التركية في الضفة الغربية من العالم، وبقوة على محور أنقرة – واشنطن – تل أبيب، الذي أعطى لتركيا حتى هذا الوقت المكانة التي يجب أن تستكملها حالياً بمحور تركيا – إيران – سوريا شرقاً لكي تلعب الدور الذي ترسمه لنفسها في المنطقة والعالم. وإلا فأين الجسر؟
ما نريد أن نقوله هو إن تركيا كدولة، بغض النظر عن تعاقب حكوماتها، تعرف بالضبط ما تريد، وكيف تسعى إلى ما تريد، بعكسنا نحن. أليس في هذا درس لنا؟ وعسى ألا يستفيد الإسرائيليون من هذا الدرس أفضل منا – نحن العرب.
 
صحيفة الوقت
18 يناير 2010