المنشور

سعيد حسين .. الإنسان والمحبة والتواصل الاجتماعي


سعيد الإنسان ..

ذلك سعيد عبدالله أو ما يطلق على نفسه هو ( سعيد حسين) الذي انتقل إلى جوار ربه قبل أيام إثر حادث سير بليغ، فكان رحيله صدمة كبيرة في الوسط الاجتماعي والسياسي وخصوصا عائلته ومحبيه وأصدقاءه الذين أحبوه كثيرا.

كنت حائراً كثيراً أن أكتب في سعيد، وفيمَ أكتب، فعلاقتي معه تمتد لسنوات طويلة، وتحديدا منذ طفولتي وحتى الآن، وكل ما رأيت في سيرة حياته أنه كان رجل عطاء غير محدود، وأخلاق حميدة عالية، وقبل ذلك إنسان صادق ومخلص، فقد كانت حياته بحق تجسيدا لمفهوم التعاون والترابط والتآلف والمحبة بينه وبين الناس.

كنت أقصد منزله في (حيِّنا) بالنعيم منذ أن كنت طفلا مع أخي (بحكم صداقته بأخي الأكبر عدنان) إبان السبعينات، ومنذ ذلك الوقت تعرفت على سعيد وتأثرت بشخصيته كثيرا، فقد كان شخصية متميزة بين أقرانه وأصدقائه في كل شيء، فهو شخص يشدك منذ أول وهلة تتعرف عليه، ويحتويك بقوة من خلال عباراته ومنطقه وقدرته على إيصال الرسائل للآخرين بسرعة، البشاشة دائمة في وجهه، وحب الطرافة يحمل بين جنبيه حسا إنسانيا راقيا، ويختزن في رأسه ثقافة واسعة من العلم والمعرفة والخبرة، يبحر بك سريعا إلى الشرق والغرب من العالم، لديه إصرار وعزيمة للنجاح، حياته مليئة بالتجارب والعبر المهمة التي يمكن أن تشكل دروسا مهمة لهذا الجيل من الشباب خصوصا.

شخصية سعيد اجتماعية وودود ومحبوبة، متواصل اجتماعيا، لديه خيط رفيع من المحبة مع كل الناس يغمرهم به دائما وخصوصا أهله وأقاربه، أحبه الجميع من أصدقاء وجيران في المنطقة وحتى خارج منطقته، مجلسه في (قرية سار) مفتوح لهم طوال أيام الأسبوع يستقبلهم ويكرمهم دون كلل أو ملل، ويستأنس برأيهم ويشاورهم حول ما يعتزم التخطيط له ويغمره ذلك سعادة كبيرة في نفسه.

سعيد كان رجلا عصاميا بنى نفسه بنفسه، وكان محبا للعلم ولكل جديد في عالم والمعرفة والاختراع، وفوق كل ذلك كان صاحب مبادئ وطنية راسخة، ومناضل سياسي صلب وعنيد، ومتابع سياسي دؤوب لم يتخلَ يوما عن قناعاته السياسية أبدا.
ذلك هو سعيد كما عرفته عن قرب.

سعيد الوطني والمناضل ..

كان الحس السياسي الغامر لديه مؤثرا على المحيطين حوله، فلديه روح وطنية وثابة وحراك سياسي واجتماعي فاعل، ما يشهد له جميع من عرفه بوطنيته المخلصة، وهي الصفة التي تركت تأثيرا كبيرا في نفسي فيما بعد وطبعت بعد ذلك على شخصيتي العامة، وشكلت جزءاً كبيراً من اهتماماتي وتوجهاتي السياسية في الحياة، فكانت النقاشات والتنظيرات والأفكار السياسية التي يتداولها سعيد مع الآخرين في الشأن السياسي هي إحدى التأثيرات الكبيرة التي ألقت بظلالها على تفكيري وتوجهي ومبادئي السياسية لاحقا.

لم يكن تصدى سعيد للعمل السياسي رغبة في منصب أو ظهور إعلامي أو ترف سياسي، بل جاء كل ذلك من خلال شخصيته الميالة للدفاع عن حقوق الناس ومطالبهم، والتصدي لرفع الحيف عنهم، ومن هنا فقد بدأ سعيد العمل عبر النقابات العمالية، وثم انتقل للعمل الحزبي السياسي (السري) في حقبة السبعينات والثمانينات، وتعرض جراء ذلك للاعتقال والمطاردة والملاحقة الأمنية، إلا أن كل ذلك لم يثنه عن أفكاره وآرائه ومبادئه السياسية التي آمن بها، فقد كان صاحب رأي صلبا وقناعة راسخة بما آمن به.

سعيد المثقف والمحب للعلم ..

كان شخصا مثقفا ومطلعا ومهتما كثيرا بالعلم والمعرفة منذ أن كان صبيا، كان رجلا شغوفا بالعلم والتعلم، ومثابرا ومحبا لمتابعة كل جديد في عالم المعرفة والتكنولوجيا.

جاهد كثيرا لتعليم نفسه، ودخل المدارس المسائية في إحدى مراحل حياته (يعمل نهارا ويدرس مساء)؛ من أجل تعلم كل جديد في العلوم واللغات وغيرها.

كان بغرفته في منزله القديم مكتبة عامرة بالكتب والمؤلفات والمجلات، وكل من دخلها غرف منها وتزوَّد علما.
تعلم سعيد، وتعلم، وحمل الشهادات حتى كان مهندسا مرموقا يشار إليه بالبنان، سطر تجاربه كلها في كتب ألفها وعمم فيها تجربته في الحياة، ليقول للعالم إن الحياة عقيدة وجهاد.

كان سعيد – رحمه الله – محبا للمغامرة والتجربة، وعبر عن ذلك الاهتمام بأنْ بنى أفكارا متقدمة ومتطورة في مجال الاختراع، ولم يكن ذلك فحسب، بل وابتكر الوسائل في عالم النقل، وأبدع في مجال (النجارة والهندسة والتصميم والديكور)؛ ولذا فقد جاءت لمسات يديه بارعة ومبدعة في مجال الهندسة المعمارية.

يبادر في الولوج في كل ما يجهله حبا في التعلم والمعرفة واكتساب الخبرة، ولذا استطاع أن يبتكر ويخترع الأفكار الجميلة، فكانت السيارة التي صنعها وأعدها وجهزها كمنزل متنقل، والتي يطلق عليها (الكرفان) مثار إعجاب الجميع في البحرين وتشهد له بمهارته وإبداعاته الكبيرة.

ولذا لم يكن مستغربا أن تخرج من منزله صحافية واعدة وهي ابنته ( نزيهة).


سعيد الأخلاق والتواصل ..

كان صاحب  ( نخوة) ومبادرة، لا يتوانى عن تقديم أي مساعدة أو خدمة إذا طلب منه، ينجز الكثير من الخدمات والأعمال للناس دون أي مقابل، بل ويشعر دائما بالسعادة؛ لأنه قدم شيئاً للآخرين.

كريم وسخي ومعطاء، وفي هذا السياق يحفظ أصدقاؤه الكثير من القصص التي تزخر بالكرم والعطاء والتفاني والتضحية، يعتبر خدمة الناس عملا مقدسا.

يعاون ويساعد ويبادر الآخرين، ومن دون أدنى مِنّة، مترجما ذلك قول الإمام علي (ع) (الناس صنفان، إما أخ لك في الدِّين أو نظير لك في الخلق).

يتغنى سعيد كثيرا بهذا الحديث المروي عن النبي (الدِّين المعاملة)، فكان تجسيدا حقيقيا مارسها في حياته عند سؤاله لماذا تؤثر الآخرين وتبالغ في العطاء لهم، فكان جوابه (الناس معاملة، فعاملهم بمثل ما تحب أن يعاملوك).

قلت له في إحدى المرات (سعيد .. ما تفعله وتقدمه للناس في هذا الزمان ضرب من الأحلام، وهذا الحس الإنساني الراقي الذي تحمله بين جنبيك أعتقد أن شخصا مثلك ربما لا ينتمي لهذا الزمن المادي الأغبر الذي طغت فيه المادة على الأخلاق).
كان خلقا رفيعا وحسا إنسانيا راقيا وتواصلا مع الجميع من دون حواجز وحدود، عمله وأخلاقه رسم ثقافة إنسانية جميلة مفادها (أن الإنسان هو الإنسان بعيدا عن أي تصنيفات أو تجزيئات أو تقسيمات له). سعيد لم يكن ليحده حدود أو حواجز في علاقاته مع كل الأجناس والأطياف من البشر.

تلك حسنة كبيرة له ستؤسس ثقافة لمفهوم متقدم لدى المجتمع، ترتكز على قاعدة الإنسان هو الإنسان قبل كل شيء وبعد كل شيء.

فسعيد الإنسان هي الكلمة التي لا أستطيع أن أضيف أو أزيد عليها

ما كتبته في سعيد هو ما أرآه حقا عليَّ لابد أن أوْفيه له، وأتمنى أن أكون قد وفيْت.

رحمك الله يا أبا ناظم، وجعل مثواك الجنان، وستبقى في قلبنا وعقلنا سعيد الإنسان أبداً.