المنشور

بلير وقد عافه الخجل بعد أن عافته الكياسة

لا‮ ‬يكل ولا‮ ‬يمل عن طلب الشهرة،‮ ‬فهو لازال مهووساً‮ ‬بها حتى خروجه منها ذليلاً‮ ‬كرئيس وزراء إثر تسببه في‮ ‬تآكل شعبية حزبه الحاكم وتزايد المطالبات داخل قيادة الحزب بتنحيه،‮ ‬وهو ما حدث بعد ضغط شديد وفقدانه لأقرب أصدقائه ومريديه ومنهم وزير الخزانة جوردون براون الذي‮ ‬تسلم العهدة من بعده كرئيس للحكومة البريطانية سيحاول خلالها‮ ‬‭-‬فيما بعد‭-‬‮ ‬استعادة ثقة الجمهور البريطاني‮ ‬في‮ ‬سياسات حزب العمال الحاكم الذي‮ ‬تحول نحو‮ ‬غريمه‮ ‘‬بفضل‮’ ‬سياسات بلير نحو حزب المحافظين،‮ ‬إلا أن الأزمة المالية العالمية لم تسعفه‮ (‬جوردن براون‮) ‬لإنقاذ الموقف المتدهور للحزب المتوقع‮ ‬‭-‬حسب استطلاعات الرأي‭-‬‮ ‬أن‮ ‬يؤدي‮ ‬إلى خسارة العمال للانتخابات البرلمانية المقبلة وعودة حزب المحافظين إلى السلطة‮.‬
ولأنه مهووس بالأضواء والشهرة فهو بعدما اضطُر للاستقالة من منصبه كزعيم لحزب العمال البريطاني‮ ‬ورئيس الحكومة البريطانية على مدى أحد عشر عاماً‮ (‬1997‮-‬2007‮)‬،‮ ‬لم‮ ‬يشأ الانسحاب بهدوء من الحياة السياسية كما‮ ‬يفعل عادة معظم الساسة الغربيين وينصرفون إلى مزاولة حياتهم الاعتيادية والانكباب على القراءة والتأليف وكتابة المذكرات‮ (‬وإلقاء المحاضرات أحياناً‮) ‬بغرض إشغال أوقات الفراغ‮ ‬وتقديم عصارة تجربتهم للمهتمين بالإطلاع على تجارب الحكم المختلفة عبر التاريخ في‮ ‬العالم أجمع،‮ ‬وإنما سارع للقبول،‮ ‬ممتناً،‮ ‬بعرض الرئيس الأمريكي‮ ‬السابق جورج بوش الابن للعمل في‮ ‬وظيفة منسق عمل اللجنة الرباعية المشكلة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي‮ ‬وروسيا والأمم المتحدة والمعنية بمتابعة ملف تسوية الصراع العربي‮ ‬الإسرائيلي،‮ ‬وكذلك مكافأة له‮ (‬من بوش‮) ‬على موقفه الداعم لحد الانصياع لقرار بوش بشن الحرب على العراق رغم عدم موافقة الأمم المتحدة على قرار الحرب‮.‬
وهو منصب شكلي‮ ‬على أية حال،‮ ‬نظراً‮ ‬لأن اللجنة إياها شكلية أُنشئت من قبل صاحبة إرادة عدم تمكين العرب بشتى السبل،‮ ‬بما فيها المناورات التفاوضية المميتة،‮ ‬فهي‮ ‬لا تجتمع إلا في‮ ‬حال شب الحريق من جديد في‮ ‬الشرق الأوسط كما حصل عندما ارتكبت إسرائيل محرقة‮ ‬غزة قبل نحو عام تقريباً‮.‬
ونظراً‮ ‬لشكلية وعدم وجاهة وظيفتها‮ (‬وظيفة منسق اللجنة الرباعية‮) ‬فقد طمع الرجل فيما هو أكثر منها هيلماناً‮ ‬ووجاهةً‮ (‬وامتيازات أيضاً‮).. ‬لقد طمع في‮ ‬الوظيفة الجديدة التي‮ ‬أنشأتها معاهد لشبونة الخاصة بعمليات التكامل والاندماج بين الدول الأعضاء في‮ ‬الاتحاد الأوروبي‮ ‬الـ‮ ‬27‮ (‬بديلاً‮ ‬للدستور الأوروبي‮ ‬الذي‮ ‬فشل في‮ ‬اختبارات الرأي‮ ‬العام التي‮ ‬أجريت عليه في‮ ‬ثلاث من الدول الأعضاء‮)‬،‮ ‬وهي‮ ‬وظيفة رئيس الاتحاد الأوروبي‮.‬
هو لم‮ ‬يراع ولم‮ ‬يلق بالاً‮ ‬لنداءات العقل بتخليه عن مثل هذا المطمع في‮ ‬تقلد منصب رئاسة الاتحاد الأوروبي‮ ‬اعتباراً‮ ‬بأن‮ ‬غالبية دول الاتحاد لا ترغب في‮ ‬ربط سمعة أول رئيس للاتحاد الأوروبي‮ ‬بسمعة رجل تم إخراجه من‮ ‘‬الباب الخلفي‮’ ‬للمؤسسة السياسية الرسمية البريطانية بسبب ما علق بسمعته من وحل نتيجة لارتكابه مخالفات جسيمة ربما كان أشهرها الكذب الفاضح في‮ ‬قضية أسلحة الدمار الشامل العراقية وتوريط بريطانيا في‮ ‬حرب العراق انسياقاً‮ ‬لمغامرات‮ ‘‬العم‮’ ‬بوش‮.‬
ولاشك أن المعاملة التي‮ ‬لقيها بلير من معظم الدول الأوروبية الأعضاء في‮ ‬الاتحاد الأوروبي‮ ‬وذلك بمقابلة رغبته بالصدود وعدم الاكتراث،‮ ‬قد خلف حسرة ومرارة في‮ ‬نفسه‮.‬
ثم جاءت التحقيقات التي‮ ‬انفتحت في‮ ‬بريطانيا بتشكيل لجنة للتحقيق في‮ ‬الكيفية التي‮ ‬تم فيها إدخال بريطانيا وتوريطها في‮ ‬عملية‮ ‬غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين الحاكم آنذاك في‮ ‬بغداد،‮ ‬والتي‮ ‬تتمحور أساساً‮ ‬حول الدور الخفي‮ ‬الذي‮ ‬لعبه توني‮ ‬بلير بصفته رئيساً‮ ‬للحكومة في‮ ‬هذه القضية،‮ ‬جاءت لتشدد الخناق النفسي‮ ‬والمعنوي‮ ‬على بلير باعتباره المتهم الأول من قبل‮ ‬غالبية البريطانيين بأنه المسؤول عن زج البلاد في‮ ‬تلك الحرب،‮ ‬والتسبب في‮ ‬قتل وإصابة آلاف الجنود البريطانيين،‮ ‬خصوصاً‮ ‬وإن التحقيقات التي‮ ‬أُجريت مع بعض الشهود قبل استدعائه شخصياً‮ ‬للتحقيق،‮ ‬قد وجهت أصابع الاتهام إليه‮.‬
فكان لابد وأن تفقده كل هذه الصدمات والمنغصات بعض توازنه النفسي‮ ‬والمعنوي،‮ ‬فلا‮ ‬يجد له منفذاً‮ ‬من هذا‮ ‘‬الحصار‮’ ‬سوى مناطحة‮ ‘‬طواحينه‮’ ‬في‮ ‬لحظة اندفاعية انفعالية كالتي‮ ‬وضعته فيها القناة الأولى للتلفزيون البريطاني‮ (‬بي‮.‬بي‮.‬سي1‮) ‬في‮ ‬المقابلة التي‮ ‬أجرتها معه السبت‮ ‬12‮ ‬ديسمبر‮ ‬‭,‬2009‮ ‬حين توجهت إليه بالسؤال المحوري‮ ‬الذي‮ ‬يوجز كل تلك الشبهات والاتهامات التي‮ ‬ظلت تحوم حوله حول مسؤوليته عن الزج ببلاده في‮ ‬الحرب ضد العراق عام‮ ‬‭,‬2003‮ ‬ومؤداه‮: ‘‬هل كنت ستزج بالبلاد في‮ ‬الحرب عام‮ ‬2003‮ ‬حتى وإن لم‮ ‬يكن صدام حسين‮ ‬يمتلك أسلحة دمار شامل‮’‬؟
فأجاب على الفور‮: ‘‬كنت سأستمر في‮ ‬التفكير أن إطاحته أمر صائب‮. ‬بالتأكيد لكنا استعملنا وأعددنا حججاً‮ ‬مختلفة حيال طبيعة التهديد‮’!‬
ماذا عسى المرء أن‮ ‬يسمي‮ ‬هذا؟
هل هي‮ ‬الروح الهجومية‮ ‘‬العدوانية‮’ ‬‭(‬The aggressive spirit‭)‬‮ ‬التي‮ ‬طالما ميَّزت أسلوب‮ ‘‬توني‮ ‬بلير‮’ ‬الذي‮ ‬يعبر به عادة عن نفسه وعن آرائه؟
أم هو الانهيار أمام الضغوطات التي‮ ‬تحاصره فيما‮ ‬يتصل بالقضية؟
أم هي‮ ‬المقامرة التكتيكية التحوطية في‮ ‬الترافع عن نفسه استباقاً‮ ‬للتحقيق الذي‮ ‬سيُجرى معه عما قريب؟
مع الأخذ بعين الاعتبار شخصية توني‮ ‬بلير التي‮ ‬قد تبدو أحياناً‮ ‬صفقة‮ (‬وربما وقحة بعض الشيء‮) ‬في‮ ‬تعبيراتها عن ذاتها،‮ ‬خصوصاً‮ ‬في‮ ‬لحظات التوتر واشتداد الضغط الناجم عن تضاد ما أو مأزق سياسي‮ ‬ما،‮ ‬فإننا نستبعد أن تكون تلك الروح الوثابة،‮ ‬كي‮ ‬لا نقول المتغطرسة،‮ ‬المتلازمة،‮ ‬مؤخراً‮ ‬وحسب،‮ ‬مع منغصات تواري‮ ‬وأفول نجم شخصية الرجل،‮ ‬يمكن أن تفل تماسكها وعزيمتها‮. ‬هي‮ ‬قد تؤذيها وتخل بتوازنها،‮ ‬لكنها لا تفضي‮ ‬بالضرورة إلى انهيارها واستسلامها‮ ‘‬لحصار الضغوط‮’‬،‮ ‬خصوصاً‮ ‬في‮ ‬حالة شخصية‮ ‘‬بلير‮’ ‬التي‮ ‬نحن بصددها،‮ ‬وهي‮ ‬شخصية حادة الذكاء ومتمرسة في‮ ‬خوض الصراعات وتجاوزها‮.‬
من ثم فإن الراجح أن توني‮ ‬بلير أراد بهذا الإقرار الاستباقي‮ ‬إفساد اتجاهات التحقيق والتهوين من الصدى الإعلامي‮ ‬والسياسي‮ ‬‭-‬‮ ‬ناهيك عن الجنائي‮ ‬‭-‬‮ ‬للأدلة التي‮ ‬يعتزم المحققون مواجهته بها‮.‬
وإلى ذلك أيضاً،‮ ‬فإن الذي‮ ‬هو‮ ‬غير مستبعد أن لا تتجاوز حدود صلاحيات‮ ‬‭(‬Mandate‭)‬‮ ‬اللجنة،‮ ‬الجانب التحقيقي‮ ‬المتعلق بتحديد وتوثيق عملية اتخاذ قرار دخول بريطانيا الحرب،‮ ‬من دون توجيه أية اتهامات مباشرة لأحد بالمسؤولية عن اتخاذ مثل هذا القرار كأساس لتأسيس وتشكيل دعوى جنائية من قبل الادعاء العام البريطاني‮.‬
واللجنة بتشكيلتها المعروفة لا تنبئ،‮ ‬على أية حال،‮ ‬بالخروج بنتائج تتجاوز ذلك الحد المرسوم الذي‮ ‬يروم فقط‮ ‬غلق هذا الملف بشكل رسمي‮ ‬ووضع حد للغط الدائر حول تحميل مسؤولية قرار دخول الحرب لرموز في‮ ‬النظام السياسي‮ ‬البريطاني‮ ‬والحيلولة دون المساس بهيبته وقواعده الأساسية‮.‬
ولكن‮.. ‬ومهما كان من أمر ملابسات وتفسيرات تلك‮ ‘‬النفحة‮’ ‬النادرة من نفحات‮ ‘‬بلير‮’ ‘‬اللامعة‮’‬،‮ ‬فإنها إن دلت على شيء فإنما تدل على عدم اكتراثه في‮ ‬الكثير من الأحايين بقيم إنسانية‮ (‬حضارية‮) ‬مثل الكياسة والتواضع المقرون بالخجل النبيل.
 
صحيفة الوطن
16 يناير 2010