المنشور

أين المنطق في رفض هيئة مكافحة الفساد؟!


لم يعد لغزاً أن ترفض الحكومة المقترح بقانون المقدم من قبل مجلس النواب بشأن إنشاء هيئة وطنية عليا لمكافحة الفساد، فكل المؤشرات كانت تتجه لرفض الحكومة لهذا المقترح، بل إنّ الحكومة سبق وأن رفضت مقترحات عدة مشابهة منذ الفصل التشريعي الأول تحت نفس المبررات والأعذار الواهية، وهي هنا تفصح علانية وبوضوح لا لبس فيه عن حجم الفساد المستشري في مختلف أجهزة ووزارات وهيئات الدولة، وهذا ليس منطق مزايد أو متجني، فكافة المؤشرات تفصح عن حجم مهول للفساد و(لوبياته) وعصاباته.

 وما أفصحت عنه التقارير الرسمية لوحدها فقط دون سواها من قضايا فساد وتلاعب بالمال العام، هي في حقيقة الأمر موجودة على طاولة الحكومة والنواب منذ سنوات عدة، ولم تشأ الحكومة أن  تحرك ساكنا حيالها، فلم نسمع عن إقالة مسئول أو محاسبة مقصر أو ردع متجاوز أو متعد على المال العام، حتى يمكننا أن نطمئن ولو قليلا إلى سلامة الأوضاع المالية في الدولة برمتها. 
من هنا فنحن لا نستغرب سلبية الرد الرسمي على تشكيل هيئة وطنية لمكافحة الفساد، لأن ذلك هو الرد الطبيعي المتوقع بكل أسف من الطرف الرسمي، فهل من المنطق أن يحاول الطرف الرسمي إقناعنا بأنّ مجرد وجود قوانين وتشريعات تعنى بالفساد هو في حد ذاته رادع لقوى الفساد كما تدعي الحكومة؟ إذا فليكن قانون العقوبات لوحده رادعا للجريمة ولتكن التشريعات المعنية بغسيل الأموال والدعارة وغيرها من الجرائم كافية لوقف تلك الجرائم!

 أتساءل أهو ضحك على الذقون أم تلاعب بمشاعر شعبنا عندما تتذرع الحكومة وترفض وتبرر وهي التي صادقت  منذ فبراير من العام 2005 على الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد وما يستتبعها من إجراءات يأتي على رأسها تشكيل الهيئة ووضع إستراتيجية وطنية تكفل محاصرة الفساد، بحيث تشارك فيها مختلف القوى  والجهات المعنية بمكافحة الفساد من حكومة وجهة تشريعية ومؤسسات مجتمع مدني، فهذا هو الوضع الطبيعي إذا أريد لنا أن نطمئن بحق إلى أن  ذلك هو  جزء من  مسار الإصلاح الذي نعرفه جميعا بكل ما تعنيه تجلياته وأبجدياته من معاني لا تخطئها العين أو يتجاوزها الحدس!

لكن تأبى الجهات الرسمية على الدوام على ألا أن  تتمادى في لغة النفي، فلا توجد حاجة لهيئة مكافحة الفساد، ولا حاجة لهيئة لمناهضة وتجريم التمييز بكافة أشكاله، ولا حاجة لهيئة لوقف التجنيس السياسي، ولا حاجة  لقانون الذمة المالية ولا تعاون مع لجان التحقيق التي تؤشر على الفساد في مواقع كثيرة في جسد الدولة المتعب بممارسات الفساد والرشوة والتعدي على المال العام، وأخيراً لا تعاون جدي مع لجنة التحقيق البرلمانية في أملاك الدولة، ولا إرجاع لكل ما نهب من أراضي عامة إبان سنوات الشقاء والظلمة، وفي المقابل تكافأ قوى الفساد على سرقاتها وتجاوزاتها  بمناصب رفيعة وامتيازات، تكفل لها مزيداً من الغرور والتعالي والغطرسة والوجاهة، وتسهيل مهماتها ومشاركة رؤوسها في خبطات الفساد وسرقات المال العام.

محزن حقا أن نتحدث ونحن في عهد الإصلاح الذي انتظرناه عن وجوه كالحة لا تخجل،  تستمر في عبثها بأموالنا العامة وبثروات أرضنا  وبحرنا من دون أن  تترك لنا متسعا من الوقت نستعيد فيه الأنفاس، في وقت تراجع معظم دول العالم غنيها قبل فقيرها كافة سياساتها  المالية وإجراءاتها الرقابية والمحاسبية لتكفل حماية أموالها العامة من العبث، وكأننا نعيش  لوحدنا بعيدا  في معزل عن كوكب لم يتوقف عن إمدادنا على الدوام بأمثلة وأرقام وحقائق مفزعة لوجوه الفساد وممارساته التي أفقرت شعوبا وهدت دولا وأشعلت حروبا ودمرت أجيالا وخربت اقتصاديات وضمائر .

أمر معيب أن يرفض الجانب الرسمي كل تلك التقارير الدولية الرصينة التي تؤطرنا كدولة في موقعنا الطبيعي – كما هيأ له الجانب الرسمي- في مؤشرات الفساد، ليحكم عليها بالتجني وعدم الموضوعية، في الوقت الذي يقدم لها الدليل تلو الآخر على عدم الجدية لوقف وجوه الفساد والسرقات في المال العام والأراضي والشواطئ والبحار والجزر والمحميات.

 بل كم هو معيب حقا أن  تستند الحكومة  في ذلك وهي ترفض تشريعات وهيئات مكافحة الفساد، حين تستند إما على أغلبية نيابية لا تعنيها قضايا الفساد في شيء بقدر ما تعنيها مصالحها الشخصية والفئوية، أو على مجلس معين يراد لوجوده أن يكون مُعيقا ومُعطلا لقوانين تجاوز عددها حتى الآن أكثر من 24 قانوناً  مركونة في الأدراج لأجل غير مسمى دون مبرر موضوعي مقنع.

هل في كل ما ذكرناه هنا تجاوز أو حتى مجرد إغفال للحقيقة؟!
متى نستفيق .. متى نصحو..  بل متى سنتعلم؟!